الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ


 ((الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة: 142، 143].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((قَدِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مُعْجِزَةٍ، وَتَسْلِيَةٍ، وَتَطْمِينِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاعْتِرَاضٍ وَجَوَابِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَصِفَةِ الْمُعْتَرِضِ، وَصِفَةِ الْمُسَلِّمِ لْحُكْمِ اللهِ ودِينِهِ.

فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَعْتَرِضُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يُضَيِّعُونَهَا، وَيَبِيعُونَهَا بِأَبْخَسِ ثَمَنٍ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَشَرَائِعِهِ.

 وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ نَحْوَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ؛ لِمَا للهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي سَيُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا.

وَكَانَتْ حِكْمَتُهُ تَقْتَضِي أَمْرَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ صَرَفَهُمْ عَنْهُ؟

 وَفِي ذَلِكَ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَشَرْعِهِ، وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَسَلَّاهُمْ، وَأَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِالسَّفَهِ، قَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْحِلْمِ وَالدِّيَانَةِ؛ فَلَا تُبَالُوا بِهِمْ؛ إِذْ قَدْ عُلِمَ مَصْدَرُ هَذَا الْكَلَامِ، فَالْعَاقِلُ لَا يُبَالِي بِاعْتِرَاضِ السَّفِيهِ، وَلَا يُلْقِي لَهُ ذِهْنَهُ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ إِلَّا سَفِيهٌ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ، وَأَمَّا الرَّشِيدُ الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ؛ فَيَتَلَقَّى أَحْكَامَ رَبِّهِ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [سورة الأحزاب: 36]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [سورة النساء: 65]، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ -يَعْنِي: مَا وَقَعَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ مِنْ أُولَئِكَ-؛ لِأَنَّهُمْ سُفَهَاءُ، وَقَدْ كَانَ فِي قَوْلِهِ {السُّفَهَاءُ} مَا يُغْنِي عَنْ رَدِّ قَوْلِهِمْ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ.

وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَعَ هَذَا لَمْ يَتْرُكْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ حَتَّى أَزَالَهَا، وَكَشَفَهَا، مِمَّا سَيَعْرِضُ لِبَعْضِ الْقُلُوبِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ} لَهُمْ مُجِيبًا: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: فَإِذَا كَانَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ مِلْكًا للهِ، لَيْسَ جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ خَارِجَةً مِنْ مُلْكِهِ، وَمَعَ هَذَا يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمِنْهُ: هِدَايَتُكُمْ إِلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ مِلَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يَعْتَرِضُ الْمُعْتَرِضُ بِتَوْلِيَتِكُمْ قِبْلَةً دَاخِلَةً تَحْتَ مِلْكِ اللهِ؟!!

  لَمْ تَسْتَقْبِلُوا جِهَةً لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، فَهَذَا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ فَكَيْفَ وَهُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَهِدَايَتِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ أَنْ هَدَاكُمْ لِذَلِكَ؟!!

فَالْمُعْتَرِضُ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضٌ عَلَى فَضْلِ اللهِ؛ حَسَدًا لَكُمْ وَبَغْيًا.

وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مُطْلَقًا، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ لَهُمَا أَسْبَابٌ أَوْجَبَتْهُمَا حِكْمَةُ اللهِ وَعَدْلُهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ بِأَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الَّتِي إِذَا أَتَى بِهَا الْعَبْدُ؛ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16].

 

المصدر:تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ
  النَّفْسُ مَعَ صَاحِبِهَا كَالشَّرِيكِ فِي الْمَالِ!!
  مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ
  رَحْمَةُ الْإِسْلْامِ فِي فُتُوحَاتِهِ وَنَبْذُهُ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ
  اللهُ هُوَ الْعَفُوُّ الْكَرِيمُ
  نَبِيُّكُمْ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ
  الْبَذْلُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ عِنْدَ سَادَةِ الْبَشَرِ
  الْعِلْمُ وَالْقُوَّةُ الْعَسْكَرِيَّةُ مِنْ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ
  الظُّلْمُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ
  هَلْ عَرَفْنَا النَّبِيَّ ﷺ حَقًّا وَاتَّبَعْنَاهُ صِدْقًا؟!!
  مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ مِنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ
  آثَارٌ عَظِيمَةٌ وَثَمَرَاتٌ جَلِيلَةٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْأُمَّةِ
  الْجِهَادُ الشَّرْعِيُّ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  عِظَمُ أَمَلِ الصَّادِقِ الْمُخْلِصِ فِي تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ
  • شارك