بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ مُخْتَرَعَةٌ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ


 ((بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ مُخْتَرَعَةٌ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ))

عِبَادَ اللهِ! هَذَا مَا صَحَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، لَا مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ, وَلَا مَا يَتَقَصَّى عَلَى آثَارِهِمْ فِيهِ قَصًّا الْمُتَصَوِّفَةُ, إِذْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ فِي صَلَاةِ  الْمَغْرِبِ, يَقُومُ قَائِمُهُمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ مَا يُسَمَّى بِـ (صَلَاةِ الرَّغَائِبِ)!!

وَهِيَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ، وَفِي أَوَّلِ رَجَبٍ، وَهِيَ صَلَاةٌ أَلْفِيَّةٌ لِمَنِ اسْتَطَاعَهَا مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي بِدْعَتِهِ جَلْدًا وَعَلَيْهَا مُقِيمًا, وَيُصَلُّونَ مِئَةَ رَكْعَةٍ, كُلُّ رَكْعَةٍ تُصَلَّى بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ عَشْرًا عَشْرًا، فَهَذِهِ أَلْفٌ، فَهِيَ صَلَاةٌ أَلْفِيَّةٌ!!

لَمْ يَتَّبِعْهَا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﷺ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَإنَّمَا هِيَ عَمَلٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ.

وَيَا لَلَّهِ الْعَجَب! كَيْفَ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ؟!!

وَكَيْفَ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالضَّلَالَةِ؟!!

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ، صَحَّ عَنْهُ قَوْلُهُ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ, وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» .

فَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ﷺ, وَإِنَّمَا جَمَعَ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ حَصَبُ النَّارِ- نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

وَأَخْرَجَ الطُّرْطُوشِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ «الْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ»  أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- -الْإِمَامِ- قَالَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا أُحِدَثَتْ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ -الَّتِي تُصَلَّى فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَفِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ- أَوَّلَ مَا أُحِدَثَتْ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعْمَائَةٍ مِنْ هِجْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ-

قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ (ابْنُ أَبِي الْحَمْرَاءِ)، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى, وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ؛ فَصَلَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَائْتَمَّ بِهِ رَجُلٌ وَأَحْرَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَاءَهُ  ثَانٍ, فَمَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَتْ جَمَاعَةً عَظِيمَةً.

ثُمَّ جَاءَ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي تَلَتْ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى فِي السَّنَةِ الْفَائِتَةِ, ثُمَّ اسْتَطَابَتْ عِنْدَنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ تِلْكَ الصَّلَاةُ, يُصَلِّيهَا النَّاسُ فِي مَسَاجِدِهِمْ, وَيُصَلُّونَهَا فِي دُورِهِم وَفِي بِيُوتِهِمْ)).

فَهَذَا أَوَّلُ الْعَهْدِ بِإِحْدَاثِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ, وَبَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ, وَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا فَلَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ دِينًا.

وَأَمَّا الدُّعَاءُ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- فَهُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ, وَهُوَ مِنْهُ بَرَاءٌ, وَعَبْدُ اللهِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَنْ يَتَوَرَّطَ -وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي الِافْتِئَاتِ عَلَى الشَّرْعِ الْأَغَرِّ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْإِحْدَاثِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِإِلْصَاقِ شَيْءٍ بِدِينِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ.

وَمَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ, وَلَكِنِ اؤْتُمِنَ غَيْرُ أَمِينٍ فَخَانَ, وَلَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَفْتَى غَيْرُ عَالِمٍ فَيُفْتِي بِالْخَطَأِ لَا بِالصَّوَابِ.

وَحِينَئِذٍ يُؤْتَى النَّاسُ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ : «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ, وَإِنَّمَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» .

هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ يَحْسَبُونَ -تَبَعًا لِلشِّيعَةِ وَلِلضُّلَّالِ مِمَّنْ حَادُوا عَنْ صِرَاطِ مُحَمَّدٍ ﷺ- أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا قَوْلَهُ: ﴿حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدُّخَانُ :1- 2], ثُمَّ يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدُّخَانُ :3- 4].

فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بَعْدَمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ؛ تَحَدِّيًا لِلْعَرَبِ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَهُمْ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ وَأُولُوا الْبَيَانِ, ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ إِنَّمَا تَكَلَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عِنْدَكُمْ مَعْشَرَ الْبُلَغَاءِ وَأَهْلَ الْفَصَاحَةِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ.. اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هَكَذَا, وَيَتَحَدَّاكُمْ بِهِ وَعِنْدَكُمْ أَبْجَدِيَّتُكُم, فَإِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ حَقًّا فَلْتُقْبِلُوا عَلَيْهَا وَلْتَقْبَلُوا التَّحَدِّيَ, وَلْتَأْتُوا بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ -الْكِتَابَ الْمُبِينَ-, ثُمَّ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ, إِلَى الْكِتَابِ الْمُبِينِ, إِلَى الذِّكْرِ الْحَكِيمِ, ثُمَّ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر : 1].

وَلَم يَأْتِ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَاهُنَا بِهَذِهِ الْكِنَايَةِ ذَاكِرًا قَبْلَهَا مَا تَعُودُ عَلَيْهِ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر : 1], فَالضَّمِيرُ فِي ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ ضَمِيرُ النَّصْبِ, ضَمِيرُ الْمَفْعُولِيَّةِ، لَا ضَمِيرُ الْفَاعِلِيَّةِ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾: رَبُّنا -جَلَّ وَعَلَا- ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ أَيْ: الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ, هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ضَمِيرُهُ هَاهُنَا ضَمِيرُ النَّصْبِ, هَاهُنَا ضَمِيرُ الْمَفْعُولِيَّةِ.

فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَعُودُ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ مَذْكُورٍ قَبْلَهُ يَعُودُ إِلَيْهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ؟

وَإنَّمَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ كَذَلِكَ, وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الَّذِي يُعَادُ عَلَيْهِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ- مُسْتَغْنِيًا عَنِ الذِّكْرِ لِشُهْرَتِهِ, وَمُسْتَغْنِيًا عَنِ الذِّكْرِ لِذِكْرِهِ وَعَظَمَتِهِ, فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- إِذْ لَا يَلْتَبِسُ ذَلِكَ عَلَى فَهْمِ أَحَدٍ, وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ بِاللَّبْسِ عَلَى عَقْلِ أَحَدٍ-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, وَيَسْمَعُ السَّامِعُ فَيَفْهَمُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ هَهُنَا بِالْإِنْزَالِ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5].

فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةٌ ذَاتُ قَدْرٍ، ذَاتُ شَرَفٍ, أَوْ هِيَ لَيْلَةٌ ذَاتُ تَقْدِيرٍ؛ إِذْ الْقَدْرُ هُوَ التَّقْدِيرُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي مَطْلَعِ سُورَةِ الدُّخَانِ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا﴾ -أَيْ: فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ- ﴿يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان : 3-4] إِذْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّقْدِيرَ الْأَزَلِيَّ الَّذِي كَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ, كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِذْ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الْقَلَمَ, فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ أَيِّ رَبِّ؟ قال: اكْتُبْ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .

فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَعِلْمُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- سَابِقٌ لَا سَائِقٌ, لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَبْرَ وَلَا يَكُونُ لَهُ لَازِمًا وَإِنَّما هُوَ صِفَةُ انْكِشَافٍ, فَكَتَبَ الْقَلَمُ مَا هُوَ كَائِنٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ, ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ((التَّقْدِيرُ الحَوْلِيُّ)) بَعْدَ التَّقْدِيرِ الْعُمُرِيِّ الْأَوَّلِ وَالتَّقْدِيرِ العُمُرِيِّ الثاني, ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ ((التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ)).

وَفِي هَذَا الَّذِي تَرَى مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ الْحَوْلِيِّ؛ يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان : 4], يَعْنِي: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ قَدْرٍ وَشَرَفٍ, وَفِيهَا يَصِيرُ مَنْ كَانَ خَامِلًا أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الرِّفْعَةَ, وَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْعِزَّةَ, وَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْعَطَاءَ وَالْحُبُورَ؛ فَهَذَا يَصِيرُ ذَا قَدْرٍ مِنْ بَعْدِ ضَعَتِهِ وَمِنْ بَعْدِ تَنَزُّلِهِ.

وَفِيهَا يَتَزَوَّجُ الْخَلْقُ مَا يَتَزَوَّجُونَ بَيْنَهَا ثُمَّ يُولَدُ لَهُمْ, وَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ قَدْ نَزَلَ الْإِذْنُ بِقَبْضِ رُوحِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ؛ فَلَا يَدُورُ الْحَوْلُ حَتَّى يَكُونَ مَا يَكُونُ, وَمَا يَحُجُّ مِنْ حَاجٍّ وَلَا يَعْتَمِرُ مِنْ مُعْتَمِرٍ إِلَّا وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي النُّسْخَةِ الْحَوْلِيَّةِ الَّتِي تَتَنَزَّلُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

ثُمَّ ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرحمن: 29]: تَقْدِيرٌ يَوْمِيٌّ، وَيُبْدِي رَبُّكَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كَوْنِهِ مَا يَشَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فِي التَّقْدِيرِ الْعُمُرِيِّ الْأَوَّلِ الَّذِي يَحْدَثُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمُرِ -وَقَدْ حَدَثَ- إِذْ حَدَثَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف : 172].

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَشْهَدَنَا فِي عَالَمِ الذَّرِّ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَهَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ الْعُمُريُّ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الْعُمُريُّ الثَّانِي فَفِي جَوْفِ الرَّحِمَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ فِي أَرْبَعِينَ فِي أَرْبَعِينَ, فَيَأْتِي الْمَلَكُ وَيَكْتُبُ مَا شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

ثُمَّ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ السَّنَوِيِّ يَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ جَهْلًا -وَرُبَّمَا لَا قَصْدَ فِيهِ, وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ سُوءِ تَلَقِّي الْعِلْمِ وَالْاضْطِرَابِ فِيهِ- يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ, وَإنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾: أَيْ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ- ﴿فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان : 3].

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر : 1], ثُمَّ ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان : 4] مِنْ أَمْرِ هَذَا التَّقْدِيرِ.

فَيَقِفُ الْوَاقِفُ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ يُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -بِزَعْمِهِ!-: اللهم، يَا ذَا الْمَنِّ -وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِ- وَيَا ذَا الْفَضْلِ -وَلَا يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ- إِنْ كُنْتَ قَدْ كَتَبْتَنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا أَوْ مَطْرُودًا أَوْ مَحْرُومًا فَامْحُ ذَلِكَ وَأَثْبِتْ غَيْرَهُ!

 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَشَدَّقُونَ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَإِنَّمَا اللَّيْلَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ التَّقْدِيرِ.

*اخْتِصَاصُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِصِيَامٍ أَوْ بِقِيَامٍ بِدْعَةٌ:

الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ)) عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَّمَهُ ﷺ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يُبَلِّغُهُ، لَا يَكْتُمُهُ, وَإِنَّما يُؤَدِّيهِ أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ وَنُصْحًا لِلْأُمَّةِ، فَيَقُولُ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا, وَصُومُوا نَهَارَهَا» . فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ, فِي سَنَدِهِ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ, قَالَ فَيهِ الْإِمَامَانِ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ -رَحِمَهُمَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--: «كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ» -يَعْنِي: ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ- .

فَكَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَيَضَعُ الْأَحَادِيثَ, وَهَذَا حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مَوْضُوعٌ لَا يَصِحُّ بِشَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الصِّحَةِ, بَلْ إِنَّه لَا يَقْعُدُ عَنْ مَرْتَبَةِ الضَّعْفِ إِذْ يَتَنَزَّلُ إِلَى مَرْتَبَةِ الْوَضْعِ وَالْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ.

فَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تَخْصِيصُهَا بِالْقِيَامِ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

وَأَمَّا صِيَامُ النِّصْفِ فَإِنْ كَانَ تَخْصِيصًا لِتَوَهُّمِ مَزِيدِ فَضْلٍ؛ فَهَذَا ابْتِدَاعٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَأْتِ بِهِ أَثَرٌ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ فِعْلِ صَاحِبٍ، وَلَا إِجْمَاعِ أُمَّةٍ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَصُومُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْغُرِّ الْبِيضِ فَهَذِهِ بِذَاتِهَا قَدْ وَرَدَ فِيهَا النَّصُّ الصَّحِيحُ, وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الْبِيضَ.

فَإِنْ وَقَعَ هَذَا الْيَوْمُ فِي عَادَةِ مَنْ يَصُومُ الْأَيَّامَ الْغُرَّ الْبِيضَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ هِجْرِيٍّ مُبَارَكٍ فَهَذَا كَذَلِكَ, وَإِلَّا فَقَدْ وَقَعَ فِي ابْتِدَاعٍ؛ إِذْ يَحْسَبُ مُتَوَهِّمًا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَضَّ عَلَى ذَلِكَ, وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ حَالِ الْحَدِيثِ، إِذْ هُوَ حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا, وَصُومُوا نَهَارَهَا» . هَذَا كَذِبٌ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ مَوْضُوعٌ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَأَيْضًا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هَكَذَا؛ تَخْصِيصُهَا بِالْقِيَامِ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

المصدر:مَا صَحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  ثَلَاثُونَ وَصِيَّةً لِلْأَبْنَاءِ فَاحْرِصْ عَلَيْهَا
  الوَحْيُ رُوحُ العَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ
  دِينُ التَّسَامُحِ وَشَرِيعَةُ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  مِصْرُ الْغَالِيَةُ صَخْرَةُ الْإِسْلَامِ
  الْحُبُّ الْفِطْرِيُّ لِلْأَوْطَانِ
  حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ
  دِينُ الِاسْتِقَامَةِ وَالتَّوَازُنِ
  بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ
  نَبْذُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ
  حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ
  حُبُّ الوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  سُبُلُ الْحِفَاظِ عَلَى الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ
  ضَوَابِطُ تَرْبِيَةِ الْيَتِيمِ وَتَأْدِيبِهِ
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: رِعَايَتُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ
  حِيَاطَةُ الشَّرْعِ لِلْعَقْلِ
  • شارك