ثَمَرَاتُ الْمُرَاقَبَةِ وَرِعَايَةِ الضَّمَائِرِ


((ثَمَرَاتُ الْمُرَاقَبَةِ وَرِعَايَةِ الضَّمَائِرِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ رِقَابَةَ السِّرِّ، وَالتَّفْتِيشَ عَمَّا فِي حَنَايَا الضَّمِيرِ، وَمُرَاجَعَةَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ حِينًا فَحِينًا؛ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهِ الْمَرْءُ طَوِيلًا.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ فِيمَنْ يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ دَنَتِ الشَّمْسُ مِنَ الرُّؤُوسِ بِمِقْدَارِ مِيلٍ -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ-، وَالنَّاسُ فِي كَرْبٍ وَهَمٍّ عَظِيمَيْنِ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَرَّكُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَلَوْ إِلَى النَّارِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- مِنْ شِدَّةِ مَا يُعَانُونَ، وَهُمْ فِي الْعَرَقِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.

مِمَّنْ يُظِلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَجْعَلُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ -كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَةُ-: ((رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ)).

فَهُنَا لَا يَخْشَى أَعْيُنَ الرُّقَبَاءِ، وَإِنَّمَا يَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ بَلْ إِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي جُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي بَشَّرَ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ أَصْحَابَ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ.. أَصْحَابَ تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ بِالصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ؛ وَجَدْتَ أَغْلَبَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَدُورُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ.

((فَالرَّجُلُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ خَالِيًا حتى تفيض عيناه، وَالرَّجُلُ الَّذِي دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَالرَّجُلُ الَّذِي قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ))؛ هَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ ظَاهِرُهُ؛ فَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ رِيَاءً، وَقَدْ يَكُونُ سَعْيُهُ نِفَاقًا، وَأَمَّا قَلْبُهُ الَّذِي عُلِّقَ بِالْمَسْجِدِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

وَأَيْضًا: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأْخَفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ)).

هَذَا أَمْرٌ فِيهِ مِنَ الْإِسْرَارِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ للهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا بَيَّنَهُ كَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ: ((حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ))؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ الْإِعْلَامُ إِلَى غَيْرِ أَعْضَائِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

وَلَكِنْ هَاهُنَا رِعَايَةٌ لِلسِّرِّ، وَرِقَابَةٌ عَلَى الضَّمِيرِ، وَتَفْتِيشٌ عَلَى الْبَاعِثِ الْمُحَرِّكِ لِلْعَمَلِ، وَسَعْيٌ وَرَاءَ تَحْرِيرِ النِّيَّةِ؛ حَتَّى تَكُونَ خَالِصَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأْخَفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ)).

((وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)).

وَالْحُبُّ فِي اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْءٌ للهِ، أَمْرٌ لِأَجْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، حُبٌّ فِي اللهِ، وَحُبٌّ بِاللهِ.

أَمَّا الْحُبُّ مَعَ اللهِ؛ فَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَيْسَ هَذَا مَعَنَا هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي ذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)).

فَجُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ يَدُورُ حَوْلَ هَذَا الْأَصْلِ، أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُرَاعِيًا لِسِرِّهِ، مُنَظِّفًا لِضَمِيرِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا لِبَاطِنِهِ.

كَمَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يَكُونَ آتِيًا بِطَهَارَةِ الْجَوَارِحِ؛ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ الْعِبَادَةُ حَتَّى يَكُونَ مُطَهِّرًا لِبَاطِنِهِ، مُطَهِّرًا لِقَلْبِهِ، آتِيًا بِغَسِيلِ الْقَلْبِ كَمَا أَتَى بِغَسِيلِ جَوَارِحِهِ عَلَى حَسَبِ مَا حَدَّدَ اللهُ، وَمَا حَدَّدَهُ رَسُولُهُ ﷺ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؛ غَسْلًا، وَمَسْحًا.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّة وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  وُجُوبُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  فَضْلُ الصِّدْقِ وَذَمُّ الْكَذِبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
  الْحَثُّ عَلَى الْمُرُوءَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ
  الْأَوْلَادُ زِينَةٌ وَابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ!!
  الْجَمَاعَاتُ الْخَارِجِيَّةُ الْإِرْهَابِيَّةُ وَإِضْعَافُ الْأُمَّةِ
  مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ
  نِدَاءٌ إِلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ
  مِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ: مَعْرِفَةُ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَمُرَاعَاتُهَا
  تَعْرِيفُ النِّكَاحِ
  الدرس السابع عشر : «حُسْنُ الخُلُقِ»
  مَعْنَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَحَقِيقَتُهَا
  خَوْفُ السَّلَفِ مِنَ النِّفَاقِ
  فَضَائِلُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ
  أَثَرُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي تَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  • شارك