اسْتِيعَابُ السُّنَّةِ الْمُسْتَجَدَّاتِ فِي كُلِّ الْعُصُورِ


 ((اسْتِيعَابُ السُّنَّةِ الْمُسْتَجَدَّاتِ فِي كُلِّ الْعُصُورِ))

*دِينُ اللهِ ثَابِتٌ لَا يَتَغَيَّرُ؛ بِعَقِيدَتِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَمُعَامَلَاتِهِ:

قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)) .

هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ: التَّوْحِيدُ.

لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].

وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.

*دِينُنَا -كِتَابًا وَسُنَّةً- مُسْتَوْعِبٌ لِكُلِّ الْمُسْتَجَدَّاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ:

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ أَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكُلِّ مَا يَنْفَعُنَا؛ يَأْمُرُنَا بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الدِّينِ.

وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُحَذِّرًا وَمُنْذِرًا مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, وَمِنَ اتِّخَاذِ سُبُلِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مَنْهَجًا وَطَرِيقًا وَسَبِيلًا.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ الْعَبْدِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ.

فَقَدْ قِيلَ لِسَلْمَانَ -قَالَ لَهُ حَبْرٌ يَهُودِيٌّ-: عَلَمَّكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ -يَعْنِي: حَتَّى كَيْفَ يَقْضِي الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ-؟!!

قَالَ: ((نَعَمْ, أَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَلَّا نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَلَا نَسْتَدْبِرَهَا -يَعْنِي: عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ-, وَأَلَّا نَسْتَجْمِرَ بِعَظْمٍ، وَلَا بِرَجِيعٍ)) .

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ يَقْضِي الإِنْسَانُ حَاجَتَه, أَفَيُبَيِّنُ هَذَا وَيَتْرُكُ مَا هُوَ فَوْقَهُ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ، وَمِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْمُعَامَلَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ؟!!

هَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ!!

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْفَعُنَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ, وَكُلَّمَا اسْتَكْثَرَ الْمَرْءُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ زَادَ فَلَاحُهُ وَقَلَّ طَلَاحُهُ, وَازْدَادَ خَيْرُهُ وَانْتَفَى شَرُّهُ.

وَهَذَا كَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ؛ فَعَكْسُهُ عَلَى عَكْسِهِ وَضِدِّهِ!!

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كُلُّ مَا يَجِدُّ وَيَسْتَجِدُّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَالٍ أَوْ أَمْرٍ لَا بُدَّ أَنْ تَجِدَ لَهُ حِكْمَةً فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ.

الْمُجْتَهِدُونَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ مَحْفُوظَةً مَعْصُومَةً، يَسْتَنْبِطُونَ الْأَحْكَامَ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ بِالطَّرَائِقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

 ((إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِإِصْلَاحِ الدِّينِ وَإِصْلَاحِ الدُّنْيَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

وَهَذَا الْأَصْلُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، يَحُثُّ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمِدٌّ لِلْآخَرِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ; وَاللهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لِعِبَادَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَأَدَرَّ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، وَنَوَّعَ لَهُمْ أَسْبَابَ الرِّزْقِ، وُطُرُقَ الْمَعِيشَةِ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ قِيَامًا لِدَاخِلِيَّتِهِمْ وَخَارِجِيَّتِهِمْ.

وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَغْذِيَةِ الرُّوحِ وَحْدَهَا وَإِهْمَالِ الْجَسَدِ; كَمَا أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاشْتِغَالِ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَتَقْوِيَةِ مَصَالِحِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ.

إِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْعِلْمَ وَالدِّينَ وَالْوِلَايَةَ وَالْحُكْمَ مُتَآزِرَاتٌ مُتَعَاضِدَاتٌ.  فَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يُقَوِّمُ الْوِلَايَاتِ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهِ السُّلْطَةُ وَالْأَحْكَامُ، وَالْوِلَايَاتُ كُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِي هُوَ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الصَّلَاحُ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ، فَحَيْثُ كَانَ الدِّينُ وَالسُّلْطَةُ مُقْتَرِنَيْنِ مُتَسَاعِدَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ تَصْلُحُ، وَالْأَحْوَالَ تَسْتَقِيمُ.

وَحَيْثُ فُصِلَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخِرِ؛ اخْتَلَّ النِّظَامُ، وَفُقِدَ الصَّلَاحُ وَالْإِصْلَاحُ، وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَبَاعَدَتِ الْقُلُوبُ، وَأَخَذَ أَمْرُ النَّاسِ فِي الِانْحِطَاطِ.

يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ الْعُلُومَ مَهْمَا اتَّسَعَتْ، وَالْمَعَارِفَ مَهْمَا تَنَوَعَّتْ، وَالِاخْتِرَاعَاتِ مَهْمَا عَظُمَتْ وَكَثُرَتْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِنْهَا شَيْءٌ يُنَافِي مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا يُنَاقِضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ.

فَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِمَا تَشْهَدُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ بِحُسْنِهِ أَوْ بِمَا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا.

وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثَالًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَلَا بِمَا يَنْقُضُهُ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ.

وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ مُحْكَمٌ ثَابِتٌ، صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

وَهَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ تُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ بِالتَّتَبُّعِ وَالِاسْتِقْرَاءِ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ وَحَوَادِثِ عُلُومِ الِاجْتِمَاعِ، وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنَ الْحَقَائِقِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ أَنَّهُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا.

دِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ النَّافِعَةِ، وَعَلَى الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ الْمُهَذِّبَةِ لِلْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ، وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْمُصْلِحَةِ لِلْأَحْوَالِ، وَعَلَى الْبَرَاهِينِ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ.

وَعَلَى نَبْذِ الْوَثَنِيَّاتِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْمَخْلُوقِينَ وَالْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَى إِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى نَبْذِ الْخُرَافَاتِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ الْمُحَيِّرَةِ لِلْفِكْرِ، وَعَلَى الصَّلَاحِ الْمُطْلَقِ.

وَعَلَى دَفْعِ كُلِّ شَرٍّ وَفَسَادٍ، وَعَلَى الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَعَلَى الْحَثِّ عَلَى الرُّقِيِّ لِأَنْوَاعِ الْكَمَالَاتِ» .

 

المصدر:فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  أُمَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ مَتْبُوعَةٌ لَا تَابِعَةٌ
  ثَمَرَاتُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحْمَنِ
  رِسَالَةٌ إِلَى الْمُنَادِينَ بِالْخُرُوجِ وَإِحْدَاثِ الْفَوْضَى
  دِينُ التَّسَامُحِ وَشَرِيعَةُ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  اللهُ لَا يُخْزِي مَنْ يُسَاعِدُ النَّاسَ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ وَتَغْيِيرُهَا بِدَايَةُ طَرِيقِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: تَرْبِيَةُ الْأَبْنَاءِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ
  كَيْفَ نُحَقِّقُ الْإِخْلَاصِ وَالتَّقْوَى؟
  تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الْجُودِ
  الْأُصُولُ الْعَامَّةُ لِلْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  سُبُلُ مُوَاجَهَةِ الإِدْمَانِ
  الْإِسْلَامُ دِينُ نِظَامٍ وَالْتِزَامٍ
  الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ فِي دِينِ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْغَزَوَاتِ وَالْحُرُوبِ
  • شارك