الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ


((الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))

لَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِوُقُوعِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيهِنَّ.

وَتَوَسَّطَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَقَالَ : ((إِنَّ أَيَّامَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ)).

وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَيَّامَ إِذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَتْ فِيهَا اللَّيَالِي، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((ماَ مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ))؛ فَأَطْلَقَ النَّبِيُّ ﷺ، فَدَخَلَتِ اللَّيَالِي تَبَعًا.

وَمَوْطِنُ الْمُقَارَنَةِ: أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ فِيهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ -وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ- حَيْثُ يَتَرَوَّى الْحَجِيجُ قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إِلَى مِنًى، أَوْ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا سُمِّيَ بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ فِيهِ بِالْمَاءِ عَلَى ظُهُورِ الرَّوَايَا -جَمْعُ رَاوِيَةٍ- وَهِيَ النُّوقُ يُؤْتَى بِالْمَاءِ عَلَى ظُهُورِهَا مَحْمُولًا فِي الْقِرَبِ مِنَ الْآبَارِ، وَحَيْثُ هُوَ.

فَكَانُوا يَتَزَوَّدُونَ بِالْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى مِنًى فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَسُمِّيَ بـ (يَوْمِ التَّرْوِيَةِ)، وَيَذْهَبُ فِيهِ الْحَجِيجُ إِلَى مِنًى يُصَلُّونَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ قَصْرًا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ، وَيُصَلُّونُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَصْرًا لِلْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ، ثُمَّ يَبِيتُونَ بِمِنًى، ثُمَّ إِذَا مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ -وَقَد صَلُّوا الْفَجْرَ- تَوَجَّهُوا إِلَى عَرَفَاتٍ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ.

وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ فَضْلُهُ، كَبِيرٌ أَجْرُ مَنْ صَامَهُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَيْثُ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) -وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟

فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ».

وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- قَالَ: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».

وَفِي هَذَا الْيَوْمِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ -وَرَوَتْ ذَلِكَ عَنْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) - قَالَ ﷺ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ.. ».

فَهَذَا هُوَ أَكْبَرُ مَوْسِمٍ يُعْتِقُ اللهُ  فِيهِ أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَذْكُورُونَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ، وَخَلَّفُوا أَهْلِيهِمْ وَأَحِبَّائِهِمْ وَرَاءَهُمْ، وَخَرَجُوا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُلَبِّينَ، وَتَجَمَّعُوا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ يَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُخْلِصِينَ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ:  ((وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).

وَصِفَةُ الدُّنُوِّ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهَا، عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي تَلِيقُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيُعْتِقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ مِنْ خَلْقِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْلِمِينَ الْمُنِيبِينَ الْمُخْبِتِينَ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي أَيَّامِ الْعَامِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ: يَوْمُ التَّرْوِيَةِ.

وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ؛ وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ جِدًّا.

وَفِيهَا: يَوْمُ النَّحْرِ؛ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، وَفِيهِ يَنْحَرُ الْحَجِيجُ بَعْدَ أَنْ يَدْفَعُوا مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِلَى مِنًى بَعْدَ أَنْ تُسْفِرَ الشَّمْسُ، يَظَلُّونَ فِي الدُّعَاءِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى إِذَا مَا دَنَا الْإِسْفَارُ جِدًّا دَفَعُوا إِلَى مِنَى لِرَمْيِ الْجَمْرَةِ -جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى- وَعِنْدَهَا تَنْقَطِعُ التَّلْبِيَةُ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ أَعْمَالٌ لِلْحَجِّ هِيَ مُعْظَمُ مَا فِي الْحَجِّ مِنْ أَعْمَالٍ.

فَالَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى الْأَيَّامِ، قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.

وَأَمَّا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ فَفِيهَا لَيْلَةٌ لَا تُقَاوَمُ فِي فَضْلِهَا، هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِمَنْ قَامَهَا للهِ  إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، مُتَبَتِّلًا، مُنِيبًا، خَاشِعًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى فَضْلِهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر:3].

وَلِذَلِكَ وَقَعَ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْعَشْرَيْنِ: الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ إِطْلَاقٌ لَا تَقْيِيدَ فِيهِ؛ فَدَخَلَتِ اللَّيَالِي فِي الْأَيَّامِ تَبَعًا.

المصدر:أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  اسْتِقْرَارُ الْمُجْتَمَعِ بِالْعَدْلِ وَهَدْمُهُ وَهَلَاكُهُ بِالظُّلْمِ
  مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفَضَائِلُ الشُّهَدَاءِ
  لِمَاذَا لَا تَتُوبُ الْآنَ؟!
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ
  الْمَوْعِظَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((أَحْكَامُ زَكَاةِ الْفِطْرِ))
  مَظَاهِرُ خُطُورَةِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  الْآمَالُ فِي الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا وَسَطُ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا
  الْوَعْيُ بِأَخْطَرِ عَدُوٍّ لِلْإِنْسَانِ
  مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!
  عِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
  نَصَائِحُ جَامِعَةٌ فِي يَوْمِ عِيدِ الْمُسْلِمِينَ
  الْأُمَّةُ الْوَسَطُ
  جُمْلَةُ حِكَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  ثَمَرَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: تَرْبِيَةُ الْأَبْنَاءِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ
  • شارك