عِظَمُ شَأْنِ الْأَمَانَةِ وَخُطُورَةُ رَفْعِهَا


 «عِظَمُ شَأْنِ الْأَمَانَةِ وَخُطُورَةُ رَفْعِهَا»

فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ الَّتِي ائْتَمَنَ اللهُ عَلَيْهَا الْمُكَلَّفِينَ؛ بِأَنْ يَعْبُرُوا رِحْلَةَ امْتِحَانِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ الْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ، وَقُدُرَاتِ الْإِدْرَاكِ وَالْفَهْمِ، عَلَى أَنْ تُسَخَّرَ لَهُمْ -بِخَلْقِ اللهِ- الْأَشْيَاءُ وَالْقُوَى فِي ذَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْكَوْنِ مِنْ حَوْلِهِمْ؛ لِيُمْتَحَنُوا فِي ظُرُوفِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعِبَادَةِ.

فَمَنْ كَفَرَ بِاللهِ كَانَ مَصِيرُهُ إِلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمَنْ آمَنَ وَكَسَبَ فِي إِيمَانِهِ خَيْرًا كَانَ مَصِيرُهُ إِلَى الْخُلُودِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

عَرَضْنَا تِلْكَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ -وَكَانَ الْعَرْضُ عَلَيْهِنَّ تَخْيِيرًا لَا إِلْزَامًا- فَأَبَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ -رَغْمَ كِبَرِهَا وَضَخَامَتِهَا- مِنْ حَمْلِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ، بَلْ خِفْنَ مِنْ حَمْلِهَا بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُنَّ اللهُ الْقُدْرَةَ عَلَى إِدْرَاكِهَا؛ إِذْ لَا تَمْلِكُ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا حَتَّى تُخْتَبَرَ أَمَانَتُهَا وَخِيَانَتُهَا.

وَحَمَلَ الْإِنْسَانُ الْأَمَانَةَ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الِاسْتِعْدَادَ الْفِطْرِيَّ الْكَامِلَ لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ بِمَا مَنَحَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ مِنْ خَصَائِصِ التَّفْكِيرِ وَالْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ الْأَشْيَاءِ، وَالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ مِمَّا يَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ أَوْ بِفِعْلِ الشَّرِّ.

وَإِذْ وَضَعَ اللهُ هَذِهِ الْخَصَائِصَ أَمَانَةً تَحْتَ يَدِهِ؛ وَضَعَ لَهُ مِنْهَاجًا يَسِيرُ عَلَيْهِ.

فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ مَا اسْتَوْدَعَ اللهُ إِرَادَتَهُ مِنْ قُوًى وَطَاعَاتٍ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَفِيمَا أَذِنَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ أَنَّهُ صَاحِبُ أَمَانَةٍ، أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا لَا يُرْضِي اللهَ أَوْ فِيمَا فِيهِ ظُلْمٌ أَوْ عُدْوَانٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ؛ فَهُوَ خَائِنٌ فِيمَا اسْتَأْمَنَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ وَدِيعَةً عِنْدَهُ.

إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ؛ لِكَثْرَةِ خِيَانَتِهِ لِلْأَمَانَةِ وَعُدْوَانِهِ عَلَى حُقُوقِهَا؛ اسْتِجَابَةً لِأَهْوَائِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَوَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ، جَهُولًا بِأَمْرِ رَبِّهِ، لَمْ يَتَبَصَّرْ بِعَوَاقِبِ ظُلْمِهِ، وَلَمْ يَحْسِبْ حِسَابًا لِمَسْؤُولِيَّتِهِ، وَلَمْ يَخْشَ عِقَابَ رَبِّهِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي وَصْفِ مُعْظَمِ النَّاسِ.

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ بِسَنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ صَاحِبِ سِرِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّبِيُّ ﷺ: «أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ».

ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ، فَقَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيُصْبِحُ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ، فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ المَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ فَأَصْبَحَ مُنْتَبِرًا   وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ»، ثُمَّ أَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَا عَلَى رِجْلِهِ ﷺ.

ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا؛ وَحَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».

النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الْإِيمَانَ نَزَلَ فِي جَذْرِ؛ أَيْ: فِي أَصْلِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَمِلُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَمِلُوا مِنَ السُّنَّةِ.

ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ قَبْضِ الْأَمَانَةِ، عَنْ قَبْضِ الْإِيمَانِ مِنَ الْقُلُوبِ، يَنَامُ الرَّجُلُ فَيُقْبَضُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، وَتُنْزَعُ الْأَمَانَةُ مِنْ فُؤَادِهِ، فَيُصْبِحُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ إِلَّا كَمِثْلِ أَثَرِ الْوَكْتِ؛ وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ يَبْقَى فِي الشَّيْءِ عَلَامَةً بَاهِتَةً تَكَادُ تُخطِئُهَا الْعَيْنُ.

ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَيُقْبَضُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ وَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ فُؤَادِهِ، فَيُصْبِحُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ إلَّا كَمِثْلِ أَثَرِ الْمَجْلِ؛ وَهُوَ مَا يُصِيبُ الْيَدَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْفَأْسِ وَنَحْوِهَا فَإِذَا هِيَ مُنْتَبِرَةٌ قَدْ نَفِطَتْ، وَتَجَمَّعَ الْمَاءُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ كَالَّذِي دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ وَأَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَا عَلَى رِجْلِهِ ﷺ.

ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَمَانَاتِ تُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى تُصْبِحَ أَنْدَرَ مِنْ عَنْقَاءَ مَغْرَبٍ أَوْ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ!!

لَا يَكَادُ الرَّجُلُ الْأَمِينُ يُوجَدُ فِي الْقَوْمِ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ، يَتَحَدَّثُ بِنُدْرَتِهِ النَّاسُ! يَقُولُون: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا؛ لِنُدْرَتِهِ وَعَدَمِ وُجُودِهِ وَعِزَّتِهِ: «يُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا».

وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمَانَةَ عِنْدَمَا تُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ تَخْتَلُّ الْمَقَايِيسُ، فَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَحْسَنَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الشَّكْلُ الظَّاهِرُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَةٍ كَالْقَبْرِ لَهُ ظَاهِرٌ يَسُرُّ وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ، يَحْوِي الْجِيَفَ.

 

 

المصدر:أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْخِلَافُ وَالْإِسْرَافُ مَرَضَانِ يُهَدِّدَانِ الْأُمَّةَ
  وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِخْدَامِهَا
  «تاريخ نشأةِ بِدْعَةِ الاحتفالِ بِالمَوْلِدِ النَّبويِّ» الشَّيخ العلَّامة المُحَدِّثُ: عبد المُحْسِن العبَّاد البدر -حفظه الله-
  الدرس السابع : «العَدْلُ»
  أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ
  الْمَوْعِظَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((فَضَائِلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))
  الْوَفَاءُ بِمِيثَاقِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ
  الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْإِسْلَامِ
  مُؤَامَرَةُ الْيَهُودِ الْمَكْشُوفَةُ وَغَفْلَةُ الْمُسْلِمِينَ!!
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ وَالسَّعِيُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ
  التَّحْذِيرُ مِنْ إِيذَاءِ الْيَتِيمِ وَقَهْرِهِ
  مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: نَبْذُ وَهَدْمُ الْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ
  بِنَاءُ الْوَعْيِ لِمُوَاجَهَةِ الْإِشَاعَاتِ
  خَطَرُ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  انْحِرَافِ الشَّبَابِ.. الْوَاقِعُ وَالْعِلَاجُ
  • شارك