أَنْوَاعُ الْهِجْرَةِ


((أَنْوَاعُ الْهِجْرَةِ))

الْهِجْرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْهَجْرِ، وَهُوَ نَوعَان:

هَجْرٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ: وَهُوَ هَجْرُ مَنْ يُظْهِرُ الْبِدَعَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ بِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِ، وَصَرْفُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً كَانَ مَشْرُوعًا، فَقَدْ هَجَرَ النَّبِيُّ ﷺ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَصَاحِبَيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-  بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ غَيرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْهَجْرِ فَائِدَةٌ أَو كَانَتْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْهَجْرُ؛ لِذَلِكَ لَمْ يَهْجُرِ النَّبِيُّ ﷺ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي مَكَّةَ وَلَمْ يَهْجُرْ رُؤُوسَ الْمُنَافِقِينَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولَ وَنُظَرَائِهِ لِمَا فِي هَجْرِهِمْ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ فَالتَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعُ مِنَ الْهَجْرِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَأَلَّفُ أَقْوَامًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ.

هَذَا هُوَ النَّوعُ الْأَوَّلُ مِنْ نَوعَيِ الْهَجْرِ، الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ لِلْمُبْتَدِعِ وَلِمُظْهِرِ الْمُنْكَرَاتِ وَلِغَيرِ ذَلِكَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ وَالزَّجْرَ.

النَّوعُ الثَّانِي: الْهَجْرُ بِمَعْنَى التَّرْك؛ أَي بِمَعْنَى تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}؛ أَي لَا يَشْهَدِ الْمُنْكَرَاتِ لِغَيرِ حَاجَةٍ كَالْإِنْكَارِ.

وَمِنَ التَّرْكِ هَجْرُ الْبِلَادِ -يَعْنِي أَرْضَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ- فَيَهْجُرُ الْمُقَامَ بَينَ أَظْهُرِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.

لَقَدْ كَانَتْ هِجْرَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ وَغَيرِهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ وَاجِبَةً قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ لِأَجْلِ أَنْ يُكَثِّرَ الْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ سَوَادَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقَلِّلَ سَوَادَ الْكُفَّارِ، وَمِنْ أَجْلِ أَلَّا يُفْتَتَنَ فِي دِينِهِ، وَلِيَتَفَقَّهَ وَيَتَعَلَّمَ.

وَمَنْ تَرَكَهَا مَع الْقُدْرَةِ عَلَيهَا فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُتَوَعَّدٌ بِمَا جَاءَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} إِلَى قَولِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

وَمَنْ نَوَى الْهِجْرَةَ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ.

ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ بَعْدَ الْفَتْحِ وَصَارَتِ الْبِلَادُ كُلُّهَا بِلَادَ إِسْلَامٍ، مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَغَيرُهَا مِنَ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، لَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ)).

وَقَولُهُ: ((لَا هِجْرَةَ)) أَي مِنْ مَكَّةَ، فَنُسِخَتِ الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي عُمُومِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إِذَا تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ إِذَا كَانَتْ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا خَافَ عَلَى دِينِهِ الْفِتْنَةَ أَو كَانَتْ مِنْ بِلَادِ الْمَعَاصِي إِلَى بِلَادِ الطَّاعَةِ أَو مِنْ بِلَادٍ تَظْهَرُ فِيهَا الْبِدْعَةُ إِلَى بِلَادٍ تَظْهَرُ فِيهَا السُّنَّةُ.

وَبِلَادُ الشِّرْكِ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا شَعَائِرُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَلَا تُقَامُ فِيهَا شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ، وَقَدْ مَرَّتِ الشُّرُوطُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ حَتَّى تَكُونَ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً.

 

المصدر:الْمَفَاهِيمُ الصَّحِيحَةُ لِلْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  نَمَاذِجُ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  حَقُّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَذُلُّ الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ
  الْوَعْيُ بِتَحَدِّيَّاتِ الْوَطَنِ الرَّاهِنَةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا
  أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الثَّقَليْنِ نِعْمَةُ الرَسُولِ ﷺ
  رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ مُحِبٍّ لِوَطَنِهِ
  رَحْمَةُ الْإِسْلْامِ فِي فُتُوحَاتِهِ وَنَبْذُهُ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ
  الْأُصُولُ الْعَامَّةُ لِلْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ وَفَوَائِدُ الْكَلَامِ عَنْهَا
  مَعْنَى الْجِهَادِ وَنَوْعَاهُ وَشُرُوطُهُ
  مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى التَّيْسِيرِ
  آدَابُ الِاسْتِئْذَانِ
  الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ: أَنَّ الْإِسْلَامِ دِينُ اسْتِرْقَاقٍ لِلْأَحْرَارِ
  صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ يَبْدَأُ بِصَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْأُسْرَةِ
  نَمَاذِجُ مِنْ مِحَنِ وَابْتِلَاءَاتِ خَيْرِ الْبَشَرِ
  مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَأَقْسَامُهَا
  • شارك