مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَأَقْسَامُهَا


((مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَأَقْسَامُهَا))

فَإِنَّ مَعْرِفَةُ اللهِ جَلَا نُورُهَا كُلَّ ظُلْمَةٍ، وَكَشَفَ سُرُورُهَا كُلَّ غُمَّةٍ؛ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ أَحَبَّهُ وَلَا بُدَّ، وَمَنْ أَحَبَّهُ انْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الظُّلُمَاتِ، وَانْكَشَفَتْ عَنْ قَلْبِهِ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، وَعَمُرَ قَلْبُهُ بِالسُّرُورِ وَالْأَفْرَاحِ، وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ التَّهَانِي وَالْبَشَائِرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ فَإِنَّهُ لَا حَزَنَ مَعَ اللهِ أَبَدًا.

وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حِكَايَةً عَنْ صَفِيِّهِ وَنَجِيِّهِ وَصَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلِهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة 40].

فَلَا حَزَنَ مَعَ اللهِ أَبَدًا.

غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَتْهُ أَسْبَابُ تَحْصِيلِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَبُّهُ بِنُصْرَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ حَلَّ الْحَزَنُ بِسَاحَتِهِ، وَنَزَلَتْ سَحَائِبُ الْأَتْرَاحِ هَتَّانَةً عَلَى وَادِيهِ، فَإِذَا آبَ أُخِذَ بِيَدِهِ، وَصُرِفَ عَنْهُ، وَكَشَفَ اللهُ مَا بِهِ، {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَلَا حَزَنَ مَعَ اللهِ أَبَدًا.

فَدَلَّ أَنَّهُ لَا حَزَنَ مَعَ اللهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَمَا لَهُ وَلِلْحَزَنِ!!

وَالْفَرَحُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ تَبَعٌ لِلْفَرَحِ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَفْرَحُ بِرَبِّهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ؛ مِنْ حَبِيبٍ، أَوْ حَيَاةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نِعْمَةٍ، أَوْ مُلْكٍ.

يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُ بِرَبِّهِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَلَا يَنَالُ الْقَلْبُ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ حَتَّى يَجِدَ طَعْمَ هَذِهِ الْفَرْحَةِ وَالْبَهْجَةِ، فَيَظْهَرُ سُرُورُهَا فِي قَلْبِهِ، وَنَضْرَتُهَا فِي وَجْهِهِ، فَيَصِيرُ لَهُ حَالٌ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ حَيْثُ لَقَّاهُمُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- نَضْرَةً وَسُرُورًا.

فَلِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.

مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَظِيمَةِ: صِفَةُ الْمَعِيَّةِ.

وَمَعِيَّةُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَوْعَانِ: مَعِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَمَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ.

وَالْخَاصَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُقَيَّدَةٌ بِشَخْصٍ، وَمُقَيَّدَةٌ بِوَصْفٍ.

أَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَشْمَلُ كُلَّ أَحَدٍ؛ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ.

وَالْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108].

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].

وَالشَّاهِدُ فِيهَا قَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}.

وَهَذِهِ مِنَ الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ بِالْخَلْقِ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسُلْطَانًا، وَسَمْعًا، وَبَصَرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].

مَا مِنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ يَتَنَاجَيَانِ بِأَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ؛ إِلَّا وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَعَهُمْ.

وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ كُلَّ أَحَدٍ: الْمُؤْمِنَ، وَالْكَافِرَ، وَالْبَرَّ، وَالْفَاجِرَ.. وَمُقْتَضَاهَا: الْإِحَاطَةُ بِهِمْ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسَمْعًا، وَبَصَرًا، وَسُلْطَانًا، وَتَدْبِيرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي إِحْصَاءَ مَا عَمِلُوهُ؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَبَّأَهُمْ بِمَا عَمِلُوا؛ يَعْنِي: أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَحَاسَبَهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَ الْمُرَادَ بِالْإِنْبَاءِ لَازِمُهُ، وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحْصِي أَعْمَالَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: ((سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ)).

{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ {كُلِّ شَيْءٍ} مَوْجُودٍ أَوْ مَعْدُومٍ.

هَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي عِلْمَهُ -تَعَالَى- وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِ خَلْقِهِ.

لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4].

فَذَكَرَ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَفِي الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُلُوِّ الذَّاتِيِّ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَلَهُ عُلُوُّ الذَّاتِ، كَمَا لَهُ عُلُوُّ الشَّأْنِ، كَمَا لَهُ عُلُوُّ الْقَهْرِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، وَقَالَ بَعْدُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}؛ فَذَكَرَ الْعُلُوَّ -وَالْعُلُوُّ مِنْ صِفَاتِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-- وَذَكَرَ الْمَعِيَّةَ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ.

قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}، قَالَ: ((هُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ)).

وَقَالَ مَعْدَانُ: ((سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}.

قَالَ: عِلْمُهُ)) .

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: ((اللهُ فِي السَّمَاءِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ)) .

وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ -وَهُوَ شَيْخُ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ-: ((قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ -يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ-: اللهُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؟

قَالَ: نَعَمْ؛ هُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ عِلْمِهِ)) . هَذَا أَخْرَجَهُ الذَّهَبِيُّ فِي ((الْعُلُوِّ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((مُخْتَصَرِ الْعُلُوِّ)).

 ((فَتَفْسِيرُ بَعْضِ السَّلَفِ لِلْمَعِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ.

وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْوَاسِطِيَّةِ)) وَفِي غَيْرِهَا أَنَّهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَأَنَّ كَوْنَهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَكِنْ لَيْسَتْ مَعِيَّتُهُ كَمَعِيَّةِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَعَ الْإِنْسَانِ فِي مَكَانِهِ؛ لِأَنَّ مَعِيَّةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ثَابِتَةٌ لَهُ وَهُوَ فِي عُلُوِّهِ؛ فَهُوَ مَعَنَا وَهُوَ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُمْكِنُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ مَعَنَا فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا.

فَلَيْسَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ تَعَارَضٌ أَصْلًا؛ إِذْ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ عَالِيًا وَهُوَ مَعَكَ، وَمِنْهُ مَا يَقُولُهُ الْعَرَبُ: الْقَمَرُ مَعَنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ، وَالشَّمْسُ مَعَنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ، وَالْقُطْبُ مَعَنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ، مَعَ أَنَّ الْقَمَرَ وَالشَّمْسَ وَالْقُطْبَ كُلَّهَا فِي السَّمَاءِ؛ فَإِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ فِي الْمَخْلُوقِ، فَاجْتِمَاعُهُمَا فِي الْخَالِقِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا عَلَى جَبَلٍ عَالٍ، وَقَاَل لِلْجُنُودِ: اذْهَبُوا إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأَنَا مَعَكُمْ.. وَهُوَ وَاضِعٌ الْمِنْظَارَ عَلَى عَيْنَيْهِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَعِيدٍ، فَصَارَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ يُبْصِرُ كَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُمْ، فَالْأَمْرُ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، فَكَيْفَ لَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْخَالِقِ؟!!

وَلَوْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا فِي حَقِّ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَاسَ صِفَاتُ الْخَالِقِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، لِظُهُورِ التَّبَايُنِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.

إِذَنْ؛ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللهُ مَعَنَا حَقًّا وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فِي السَّمَاءِ حَقًّا، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، إِلَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُمَثِّلَ اللهَ بِخَلْقِهِ، وَيَجْعَلَ مَعِيَّةَ الْخَالِقِ كَمَعِيَّةِ الْمَخْلُوقِ.

أَمَّا الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِوَصْفٍ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128])) .

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي -أَوْ قَالَ: إِذَا ذَكَرَنِي-)) .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا مَجْزُومًا بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مَوْصُولًا، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

هَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلنَّصْرِ، وَالتَّأْيِيدِ، وَالْحِفْظِ، وَالْعِنَايَةِ، وَالْكِلَاءَةِ، وَالرِّعَايَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَالْكِفَايَةِ، وَالْقُرْبِ، وَالتَّسْدِيدِ، وَالْهِدَايَةِ.. فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا تَقْتَضِيهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- قَرِيبٌ مِنْ دَاعِيهِ، وَقَرِيبٌ مِنْ عَابِدِهِ.

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا مُجِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

هَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ بِالدَّاعِي.. بِالدَّاعِي دُعَاءَ الْعِبَادَةِ وَالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ.

وَهُوَ الْقَرِيبُ وَقُرْبُهُ الْمُخْتَصُّ بِالدْ=دَاعِي وَعَابِدِهِ عَلَى الْإِيمَانِ.

عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ)) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)).

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].

 ((وَأَمَّا الْخَاصَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيِّهِ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة 40].

وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].

وَهَذِهِ أَخَصُّ مِنَ الْمُقَيَّدَةِ بِوَصْفٍ.

فَالْمَعِيَّةُ دَرَجَاتٌ: عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَخَاصَّةٌ مُقَيَّدَةٌ بِوَصْفٍ، وَخَاصَّةٌ مُقَيَّدَةٌ بِشَخْصٍ.

فَأَخَصُّ أَنْوَاعِ الْمَعِيَّةِ مَا قُيِّدَ بِشَخْصٍ، ثُمَّ مَا قُيِّدَ بِوَصْفٍ، ثُمَّ مَا كَانَ عَامًّا.

فَالْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِحَاطَةَ بِالْخَلْقِ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسَمْعًا، وَبَصَرًا، وَسُلْطَانًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَالْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ بِنَوْعَيْهَا تَسْتَلْزِمُ مَعَ ذَلِكَ النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ)) .

 

المصدر:مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  حِكَمُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي شَهْرِ الْحَصَادِ
  احْذَرْ الِاسْتِهَانَةَ؛ فَبِهَا الْهَلَاكُ!!
  حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْمُخَدِّرَاتِ وَأَدِلَّتُهَا
  ((ابْتُلِيَ بِالْعَادَةِ السِّرِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ تَرْكَهَا؟!!)) الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله
  فَضْلُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ
  الدرس السابع : «العَدْلُ»
  حَقُّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَذُلُّ الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ
  وَاجِبُ الْعُلَمَاءِ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ طَبِيعَةَ عَدُوِّهِمْ
  نَهْيُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ
  حَضُّ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ
  مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ!!
  مِنْ عَلَامَاتِ رِقَابَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ: الْخَوْفُ مِنَ النِّفَاقِ
  صِدْقُ وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ بِشَهَادَةِ أَعْدَائِهِ
  • شارك