ثَمَرَاتُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ


 

((ثَمَرَاتُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ))

إِنَّ الْعَبْدَ كَمَا يَكُونُ لَهُ وَقْتٌ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يُشَارِطُ فِيهِ نَفْسَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْصِيَةِ بِالْحَقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةٌ يُطَالِبُ فِيهَا النَّفْسَ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى جَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا كَمَا يَفْعَلُ التُّجَّارُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ؛ حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الدُّنْيَا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَفُوتَهُمْ مِنْهَا مَا لَوْ فَاتَهُمْ لَكَانَتِ الْخِيَرَةُ لَهُمْ فِي فَوَاتِهِ، وَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَا يَبْقَى إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، فَكَيْفَ لَا يُحَاسِبُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خَطَرُ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ أَبَدَ الْآبَادِ، مَا هَذِهِ الْمُسَاهَلَةُ إِلَّا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالْخِذْلَانِ وَقِلَّةِ التَّوْفِيقِ، نَعُوذُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.

عِبَادَ اللهِ! «فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ مَصَالِحُ، مِنْهَا الِاطِّلَاعُ عَلَى عُيُوبِهَا، وَمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عَيْبِ نَفْسِهِ، لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبِ النَّفْسِ، مَقَتَهَا فِي ذَاتِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)): عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ، حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي جَنْبِ اللهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا)).

وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: ((لَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي لَقَلَيْتُ النَّاسَ)).

فَفِي النَّاسِ شَرٌّ كَبِيرٌ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ الْخَبِيرُ الْبَصِيرُ-، وَمَهْمَا قَلَّبْتَ النَّاسَ، خَرَجَ لَكَ مِنْ وَرَاءِ تَقْلِيبِهِمْ أُمُورٌ.

((فَلَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي -وَأَنَّهَا أَسْوَءُ، وَقَدِ انْطَوَتْ عَلَى الشَّرِّ الْكَبِيرِ- لَقَلَيْتُ النَّاسَ))؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَالَ نَفْسِهِ، وَخَبَرَ حَالَ غَيْرِهِ، فَوَجَدَ الشَّرَّ بَازِغًا، وَوَجَدَ آفَاتِ النُّفُوسِ حَالَّةً؛ فَإِنَّهُ يَمْقُتُ غَيْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ نَفْسَهُ، لَكَانَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا.

قَالَ مُطَرِّفٌ فِي دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: ((اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي)).

فَيَرَى نَفْسَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي عَرَفَاتٍ أَسْوَءَ النَّاسِ، وَأَرْدَءَ النَّاسِ، وَشَرَّ النَّاسِ، فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي))، مِنْ بَابِ هَضْمِ النَّفْسِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهَا، وَالْحَطِّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ نَفْسِهِ هَلَكَ.

فَالنَّفْسُ كَمَاءِ الْبَحْرِ، لَا يَشْبَعُ وَارِدُهُ مَهْمَا شَرِبَ مِنْهُ، فَمَا يَزَالُ يَعُبُّ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، حَتَّى تَنْقَدَّ مَعِدَتُهُ، وَلَا رِيَّ، وَلَا ارْتِوَاءَ!!

فَاللَّهُمَّ لَا تُذِقْنَا طَعْمَ أَنْفُسِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!!

قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ: ((لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى أَهْلِ عَرَفَاتٍ، ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَدْ غُفِرَ لَهُمْ، لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ فِيهِمْ)).

وَقَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: ((إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ، كُنْتُ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ)).

وَلَمَّا احْتُضِرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الْأَشْهَبِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ حَمَّادُ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَلَيْسَ قَدْ أَمِنْتَ مِمَّا كُنْتَ تَخَافُهُ، وَتَقْدُمُ عَلَى مَنْ تَرْجُوهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟

فَقَالَ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ يَنْجُوَ مِنَ النَّارِ؟!!

قَالَ: إِي وَاللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو لَكَ ذَلِكَ)).

أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ أَنْجُوَ مِنَ النَّارِ؟!!

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: مُحَاسَبَتَهَا:

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((زَكَاةُ النَّفْسِ وَطَهَارَتُهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا، فَلَا تَزْكُو وَلَا تَطْهُرُ وَلَا تَصْلُحُ الْبَتَّةَ إِلَّا بِمُحَاسَبَتِهَا.

قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ -وَاللهِ- لَا تَرَاهُ إِلَّا قَائِمًا عَلَى نَفْسِهِ)) ، مَا أَرَدْتِ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ وَمَا أَرَدْتِ بِأَكْلَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِمَدْخَلِ كَذَا وَمَخْرَجِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِهَذَا؟ مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللهِ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا، وَنَحْوُ هَذَا مِنْ كَلَامٍ)).

فَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ يطلعُ عَلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا، فَيُمْكِنُهُ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِهَا)) .

((وَأَضَرُّ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ: الْإِهْمَالُ، وَتَرْكُ الْمُحَاسَبَةِ وَالِاسْتِرْسَالُ، وَتَسْهِيلُ الْأُمُورِ وَتَمْشِيَتُهَا، فَإِنَّ هَذَا يَؤُولُ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ، وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْغُرُورِ، يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ عَنِ الْعَوَاقِبِ، وَيُمَشِّي الْحَالَ، وَيَتَّكِلُ عَلَى الْعَفْوِ، فَيُهْمِلُ مُحَاسَبَةَ نَفْسِهِ وَالنَّظَرَ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَهُلَ عَلَيْهِ مُوَاقَعَةُ الذُّنُوبِ وَأَنِسَ بِهَا، وَعَسُرَ عَلَيْهَا فِطَامُهَا)) .

إِنَّ الْمُحَاسَبَةَ -مُحَاسَبَةَ النَّفْسِ- طَرِيقُ النَّجَاةِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُبَصِّرَنَا بِعُيُوبِ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا مُحَاسَبَةَ أَنْفُسِنَا وَمُرَاقَبَتَهَا فِي ذَاتِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ أَنْفُسَنَا إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:حَاجَتُنَا إِلَى الدِّينِ الرَّشِيدِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  دَوْرُ الْأُسْرَةِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحْمَنِ
  وَسَائِلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ السَّعِيدَةِ
  انْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِ
  انْحِرَافِ الشَّبَابِ.. الْوَاقِعُ وَالْعِلَاجُ
  لِمَنْ تَكُونُ الْبَيْعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟
  عَقِيدَةُ الْيَهُودِ: أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ
  سَبِيلُ نَجَاتِكَ إِمْسَاكُ لِسَانِكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ!
  مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الزَّوَاجِ الذُّرِّيَّةُ
  فَضَائِلُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَشَرَفُ حَمَلَتِهِ
  النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ الْأَيْتَامِ وَالْفُقَرَاءِ
  الدرس الثامن : «التَّوَاضُعُ»
  مِنْ أَسْرَارِ الْحَجِّ الْعَظِيمَةِ
  عَوَاقِبُ التَّعَدِّي عَلَى النِّظَامِ الْعَامِّ
  • شارك