آيَاتُ الِاعْتِبَارِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

آيَاتُ الِاعْتِبَارِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

((آيَاتُ الِاعْتِبَارِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ َّ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ َّ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((دَعْوَةُ الْقُرْآنِ إِلَى التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ))

فَقَدْ حَرَّكَ القُرْآنُ القُلُوبَ وَالعُقُولَ إِلَى تَأَمُّلِ المَعَانِي، وَالِاتِّعَاظِ وَالِاسْتِبْصَارِ لِمَا جَاءَ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ مَصِيرِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ حِينَ اسْتَجَابُوا أَوْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ؛ لِذَلِكَ فَإِنَّ المَوَاضِعَ التِي يَذْكُرُ فِيهَا القُرْآنُ القَصَصَ وَالأَمْثَالَ، وَالتِي يَذْكُرُ فِيهَا الحَثَّ عَلَى التَّعَقُّلِ، وَالتَّذَكُّرِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالتَّقْوَى وَالإِيمَانِ، وَالرُّؤْيَةِ وَالإِبْصَارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

فَمِنَ المَوَاضِعِ التِي حَثَّ فِيهَا عَلَى التَّعَقُّلِ: وَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {أفَلاَ تَعْقِلُونَ} فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنَ القُرْآنِ العَظِيمِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ.

كَمَا وَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ.

وَقَدْ وَرَدَ غَيْرُهَا مِنَ الآيَاتِ فِي المَوْضُوعِ نَفْسِهِ بِصِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنَ القُرْآنِ المَجِيدِ.

كَمَا وَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} فِي مَوْضِعَينِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ.

قَالَ -تَعَالَى-: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}[الأنعام: 50].

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فِي مَوْضِعَيْنِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فِي مَوْضِعَيْنِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... أَفَلَا تَتَّقُونَ} فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنَ القُرْآنِ المَجِيدِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ -أَيْضًا-.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ.

كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].

وَكَذَلِكَ: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].

وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: {بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۗ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: 44].

وَكَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]. 

وَفِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]. 

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {فَانْظُرُواْ...} فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... أَفَلَا تُبْصِرُونَ} فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ.

وَكَذَلِكَ المَوَاضِعُ التِي ذُكِرَ فِيهَا السَّمَاعُ؛ كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأَيَاتٍ ۖ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26]. 

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71].

 وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ.

فَهَذِهِ المَوَاضِعُ وَغَيْرُهَا إِنَّمَا يَدْعُو -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهَا إِلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ المَوَاعِظِ وَالآيَاتِ، القَائِدِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالإِيمَانِ، وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ.

دَعَا القُرْآنُ إِلَى التَّأَمُّلِ، وَالتَّذَكُّرِ، وَالِاعْتِبَارِ؛ فَوَجَّهَ الْخِطَابَ لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ وَالنُّهَى؛ فَقَدْ وَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنَ القُرْآنِ المَجِيدِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الْأَلْبَابِ} فِي مَوْضِعَيْنِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُو الْأَلْبَابِ} فِي مَوْضِعَيْنِ -أَيْضًا-.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَىٰ} فِي مَوْضِعَيْنِ.

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52].

وَقَوْلُهُ: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وَقَالَ -تَعَالَى-: {هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ}[الفجر: 5].    

وَوَرَدَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {... إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} فِي مَوْضِعَيْنِ.

وَسِرُّ ذَلِكَ: هُوَ حَثُّ أَصْحَابِ تِلْكَ العُقُولِ وَالأَلْبَابِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي تَدَبُّرِ النَّصِّ القُرْآنِيِّ، وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا فِيهِ.

قَالَ -تَعَالَى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأَيَاتٍ لِّأُوْلِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 191].

وَقَالَ -تَعَالَى-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَابِ ...} [يوسف: 111].

وَقَالَ -تَعَالَى-: {كُلُواْ وَارْعَوْاْ أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَىٰ} [طه: 54].  

وَقَالَ -تَعَالَى-: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأَيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَىٰ} [طه: 128].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَخَصَّ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- بِأَنَّ ذَلِكَ آيَاتٌ لِأُولِي النُّهَى؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَأَهْلُ التَّدَبُّرِ وَالِاتِّعَاظِ».

وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {كُلُواْ وَارْعَوْاْ أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأَيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَىٰ} [طه: 54]: ((إِنَّ فِيمَا وَصِفَ فِي هَذِهِ الآيَةِ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّكُمْ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ لَآيَاتٍ يَعْنِي: لَدَلَالَاتٍ وَعَلَامَاتٍ- تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّكُمْ، وَأَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ)). 

وَضَرَبَ اللهُ -تَعَالَى- الأَمْثَالَ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَحَثَّ عَلَى تَأَمُّلِهَا وَتَذَكُّرِهَا فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَفِي مَجَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَضَرَبَ اللهُ الأَمْثَالَ لِلْإِيمَانِ وَالكُفْرِ، وَالعِلْمِ النَّافِعِ، وَفَضْحِ النِّفَاقِ، وَالحَثِّ عَلَى الإِنْفَاقِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الخَيْرِ، وَالتَّنْدِيدِ بِالشَّرِّ، وَتَصْوِيرِ الطَّيِّبِ وَالخَبِيثِ، وَالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، وَلِإِقَامَةِ الأَدِلَّةِ وَالبَرَاهِينِ، وَبَيَانِ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

قَالَ -تَعَالَى- فِي بَيَانِ الهَدَفِ مِنْ تِلْكَ الأَمْثَالِ: {... وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25].

وَقَالَ -تَعَالَى-: {...وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {... وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

وَأَظْهَرَ القُرْآنُ مَصِيرَ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِتِلْكَ الأَمْثَالِ، فَقَالَ -تَعَالَى-: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان: 35-39].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-:  وَكُلُّ هَذِهِ الأُمَمِ التِي أَهْلَكْنَاهَا -التِي سَمَّيْنَاهَا، أَوْ لَمْ نُسَمِّهَا- ضَرَبْنَا لَهَا الأَمْثَالَ، يَقُولُ: مَثَّلْنَا لَهَا الأَمْثَالَ، وَنَبَّهْنَاهَا عَلَى حُجَجِنَا عَلَيْهَا، وَأَعْذَرْنَا إِلَيْهَا بِالعِبَرِ وَالمَوَاعِظِ، فَلَمْ نُهْلِكْ مِنْهُمْ أُمَّةً إِلَّا بَعْدَ الإِبْلَاغِ إِلَيْهِمْ فِي المَعْذِرَةِ)).

إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الآيَاتِ قَدْ خُتِمَتْ بِعِلَلٍ تَدْعُو إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {... كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219].

وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {... وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221].

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {... كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219].

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْأَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {... فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]. 

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {... وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]. 

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113].

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۚ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3].

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27-28].

وَقَولِهِ -تَعَالَى-: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وَغَيْرِهَا مِنَ الآيَاتِ الكَثِيرَةِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ المُؤْمِنَ يَسْعَى لِتَحْقِيقِ تِلْكَ الغَايَاتِ التِي أُنْزِلَتْ مِنْ أَجْلِهَا الآيَاتُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَدَبُّرِ القُرْآنِ، وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ، وَالعَمَلِ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَوَامِرَ وَتَوْجِيهَاتٍ.

وَقَدْ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الغَافِلِينَ وَالكَافِرِينَ وَالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُكَذِّبِينَ مَصْرُوفُونَ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِهِ وَفَهْمِهَا، وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَمِنْهَا: القُرْآنُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَنْزَعُ عَنْهُمْ فَهْمَ القُرْآنِ، وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ)).

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:  «وَأَوْلَى الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَصْرِفُ عَنْ آيَاتِهِ -وَهِيَ: أَدِلَّتُهُ وَأَعْلَامُهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ فِي تَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِهِ؛ وَالسَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنْ خَلْقِهِ فَمِنْ آيَاتِهِ، وَالقُرْآنُ أَيْضًا مِنْ آيَاتِهِ- ، وَقَدْ عَمَّ بِالخَبَرِ أَنَّهُ سَيَصْرِفُ عَنْ آيَاتِهِ المُتَكَبِّرِينَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ، وَهُمُ الذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَهُمْ عَنْ فَهْمِ جَمِيعِ آيَاتِهِ وَالِاعْتِبَارِ وَالادِّكَارِ بِهَا مَصْرُوفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ وُفِّقُوا لِفَهْمِ بَعْضِ ذَلِكَ فَهُدُوا لِلِاعْتِبَارِ بِهِ لَاتَّعَظُوا وَأَنَابُوا إِلَى الحَقِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ مِنْهُمْ)).

((الِاعْتِبَارُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا))

الِاعْتِبَارُ لُغَةً: مَصْدَرُ «اعْتَبَرَ»: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ع ب ر) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النُّفُوذِ وَالْمُضِيِّ فِي الشَّيْءِ، يُقَالُ: عَبَرْتُ النَّهْرَ عُبُورًا، وَعَبْرُ النَّهْرِ -بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ-: شَطُّهُ.

قَالَ الْخَلِيلُ: ((عَبْرَةُ الدَّمْعِ: جَرْيُهُ، قَالَ: وَالدَّمْعُ -أَيْضًا- عَبْرَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّمْعَ يَعْبُرُ؛ أَيْ: يَنْفُذُ ويَجْرِي.

فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ؛ فَهُمَا عِنْدَ ابْنِ فَارِسٍ مَقِيسَانِ مِنْ عَبْرَيِ النَّهْرِ -أَيْ: شَاطِئَيْهِ-؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِصَاحِبِهِ، فَذَاكَ عَبَرَ لِهَذَا، وَهَذَا عَبَرَ لِذَاكَ، فَإِذَا قُلْتَ: اعْتَبَرْتُ الشَّيْءَ؛ فَكَأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى الشَّيْءِ فَجَعَلْتَ مَا يَعْنِيكَ عَبْرًا لِذَاكَ، فَتَسَاوَيَا عِنْدَكَ.

هَذَا اشْتِقَاقُ الِاعْتِبَارِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} [الحشر: 2]؛ كَأَنَّهُ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ فَعُوقِبَ بِمَا عُوقِبَ بِهِ، فَتَجَنَّبُوا مِثْلَ صَنِيعِهِمْ؛ لِئَلَّا يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ مَا نَزَلَ بِأُولَئِكَ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقِيَاسِ: قَوْلُ الْخَلِيلِ: عَبَّرْتُ الدَّنَانِيرَ تَعْبِيرًا إِذَا وَزَنْتُهَا دِينَارًا دِينَارًا، وَالْعِبْرَةُ: الِاعْتِبَارُ بِمَا مَضَى)).

وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((أَصْلُ (الْعَبْرِ): تَجَاوُزٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَأَمَّا الْعُبُورُ فَيَخْتَصُّ بِتَجَاوُزِ الْمَاءِ، وَمِنْهُ: عَبَرَ النَّهْرَ لِجَانِبِهِ؛ حَيْثُ يَعْبُرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ أَوْ مِنْهُ، وَاشْتُقَّ مِنْهُ عَبْرُ الْعَيْنِ لِلدَّمْعِ، وَالْعَبْرَةُ كَالدَّمْعَةِ، وَقِيلَ: عَابِرُ سَبِيلٍ؛ أَيِ: الْمَارُّ، وَعَبَرَ الْقَوْمُ إِذَا مَاتُوا، كَأَنَّهُمْ عَبَرُوا قَنْطَرَةَ الدُّنْيَا.

وَالِاعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ يَكُونُ بِالْحَالَةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً} [آل عمران: 13]، وَقَالَ: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} [الحشر: 2])).

وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟)).

قَالَ: ((كَانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا)).

وَ((الْعِبَرُ: جَمْعُ عِبْرَةٍ، وَهِيَ كَالْمَوْعِظَةِ مِمَّا يَتَّعِظُ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَيَعْمَلُ بِهِ وَيَعْتَبِرُ؛ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ)).

((وَالْعِبْرَةُ -أَيْضًا-: الِاعْتِبَارُ بِمَا مَضَى، وَقِيلَ: الْعِبْرَةُ: الِاسْمُ مِنَ الِاعْتِبَارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اللهمّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْبُرُ الدُّنْيَا وَلَا يَعْبُرُهَا؛ أَيْ: مِمَّنْ يَعْتَبِرُ بِهَا، وَلَا يَمُوتُ سَرِيعًا حَتَّى يُرْضِيَكَ بِالطَّاعَةِ.

وَيُقَالُ: عَبِرَتْ عَيْنُهُ وَاسْتَعْبَرَتْ: دَمَعَتْ، وَعَبِرَ عَبْرًا وَاسْتَعْبَرَ: بَدَتْ عَبْرَتُهُ وَحَزِنَ.  وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ فَبَكَى))، هُوَ اسْتَفْعَلَ، مِنَ الْعِبْرَةِ، وَهِيَ تَحَلُّبُ الدَّمْعِ)).

وَالِاعْتِبَارُ اصْطِلَاحًا:

قَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الِاعْتِبَارُ: هُوَ النَّظَرُ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَجِهَاتِ دَلَالَتِهَا؛ لِيُعْرَفَ بِالنَّظَرِ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهَا، وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ: هُوَ التَّدَبُّرُ وَقِيَاسُ مَا غَابَ عَلَى مَا ظَهَرَ)).

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْعِبْرَةُ وَالِاعْتِبَارُ: الِاتِّعَاظُ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ بِالشَّيْءِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاعْتِبَارُ: الْمُجَاوَزَةُ مِنْ عُدْوَةٍ دُنْيَا إِلَى عُدْوَةٍ قُصْوَى، وَمِنْ عِلْمٍ أَدْنَى إِلَى عِلْمٍ أَعْلَى)).

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الِاعْتِبَارُ: أَنْ يَرَى الدُّنْيَا لِلْفَنَاءِ، وَالْعَامِلِينَ فِيهَا لِلْمَوْتِ، وَعُمْرَانَهَا لِلْخَرَابِ.

وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ: اسْمٌ مِنَ الْمُعْتَبَرَةِ، وَهِيَ رُؤْيَةُ فَنَاءِ الدُّنْيَا كُلِّهَا بِاسْتِعْمَالِ النَّظَرِ فِي فَنَاءِ جُزْئِهَا)) )).

 ((جُمْلَةٌ مِنْ آيَاتِ الِاعْتِبَارِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

عِبَادَ اللهِ، كَمْ فِي التَّنْزِيلِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُحْكَمَاتِ الْهَادِيَةِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ إِلَى الِاعْتِبَارِ وَالْعِبْرَةِ فِيمَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَتَدْبِيرِ اللهِ -تَعَالَى- فِي مُلْكِهِ فِي مُخْتَلَفِ الْأَوْقَاتِ؛ لِيَهْتَدُوا إِلَى تَقْوَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَلَّا يَغْتَرُّوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمُتَعِ وَالْأَمْوَالِ؛ فَتُلْهِيَهُمُ الْآمَالُ عَنِ الْآجَالِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5-6].

((يَقُولُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ {حَقٌّ} أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ وَلَا تَرَدُّدَ، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَعْدُهُ حَقًّا فَتَهَيَّئُوا لَهُ، وَبَادِرُوا أَوْقَاتَكُمُ الشَّرِيفَةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا يَقْطَعْكُمْ عَنْ ذَلِكَ قَاطِعٌ؛ {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بِلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَمَطَالِبِهَا النَّفْسِيَّةِ فَتُلْهِيَكُمْ عَمَّا خُلِقْتُمْ لَهُ، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ، الَّذِي هُوَ عَدُوُّكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ؛ {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} أَيْ: لِتَكُنْ مِنْكُمْ عَدَاوَتُهُ عَلَى بَالٍ، وَلَا تُهْمِلُوا مُحَارَبَتَهُ كُلَّ وَقْتٍ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُ، وَهُوَ دَائِمًا لَكُمْ بِالْمِرْصَادِ.

{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} هَذَا غَايَتُهُ وَمَقْصُودُهُ مِمَّنْ تَبِعَهُ؛ أَنْ يُهَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ)).

إِنَّ الِاعْتِبَارَ مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخَصِّ مَزَايَا الْمُتَّقِينَ، وَأَهْلُ الِاعْتِبَارِ هُمْ أَصْحَابُ النَّظَرِ الثَّاقِبِ وَالْقَلْبِ الْخَاشِعِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26].

(({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}: فَإِنَّ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَإِذَا رَأَى عُقُوبَةَ فِرْعَوْنَ عَرَفَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَكَبَّرَ وَعَصَى وَبَارَزَ الْمَلِكَ الْأَعْلَى؛ عَاقَبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَنْ تَرَحَّلَتْ خَشْيَةُ اللَّهِ مِنْ قَلْبِهِ؛ فَلَوْ جَاءَتْهُ كُلُّ آيَةٍ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا)).

وَيَقُولُ -سُبْحانَهُ-: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

(({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أَيْ: قَلْبٌ عَظِيمٌ حَيٌّ ذَكِيٌّ زَكِيٌّ، فَهَذَا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَذَكَّرَ بِهَا وَانْتَفَعَ فَارْتَفَعَ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَلْقَى سَمْعَهُ إِلَى آيَاتِ اللَّهِ، وَاسْتَمَعَهَا اسْتِمَاعًا يَسْتَرْشِدُ بِهِ، وَقَلْبُهُ شَهِيدٌ -أَيْ: حَاضِرٌ-؛ فَهَذَا لَهُ -أَيْضًا- ذِكْرَى وَمَوْعِظَةٌ، وَشِفَاءٌ وَهُدًى، وَأَمَّا الْمُعْرِضُ الَّذِي لَمْ يُصْغِ سَمْعَهُ إِلَى الْآيَاتِ فَهَذَا لَا تُفِيدُهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا قَبُولَ عِنْدَهُ، وَلَا تَقْتَضِي حِكْمَةُ اللَّهِ هِدَايَةَ مَنْ هَذَا نَعْتُهُ)).

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّ الْحَقَّ -سُبْحَانَهُ- قَدْ حَثَّ عَلَى إِعْمَالِ الْعُقُولِ بِالِاعْتِبَارِ، وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَأَوْلَى ذَلِكَ عِنَايَةً خَاصَّةً؛ بَلْ جَعَلَهُ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلِ الطَّاعَاتِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحانَهُ- آمِرًا بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

(({هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أَيِ: الْبَصَائِرِ النَّافِذَةِ، وَالْعُقُولِ الْكَامِلَةِ؛ فَإِنَّ فِي هَذَا مُعْتَبَرًا يُعْرَفُ بِهِ صُنْعُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الْمُعَانِدِينَ لِلْحَقِّ، الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ، الَّذِينَ لَمْ تَنْفَعْهُمْ عِزَّتُهُمْ، وَلَا مَنَعَتْهُمْ قُوَّتُهُمْ، وَلَا حَصَّنَتْهُمْ حُصُونُهُمْ حِينَ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمُ النَّكَالُ بِذُنُوبِهِمْ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ، وَقِيَاسُ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُشَابِهُهُ، وَالتَّفَكُّرُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحْكَامُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْفِكْرَةِ، وَبِذَلِكَ يَكْمُلُ الْعَقْلُ، وَتَتَنَوَّرُ الْبَصِيرَةُ، وَيَزْدَادُ الْإِيمَانُ، وَيَحْصُلُ الْفَهْمُ الْحَقِيقِيُّ، ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ لَمْ يُصِبْهُمْ جَمِيعُ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَفَّفَ عَنْهُمْ)).

وَيَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

((دَعَا اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِيَنْظُرُوا وَيَعْتَبِرُوا، فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} بِأَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} آيَاتِ اللَّهِ، وَيَتَأَمَّلُونَ بِهَا مَوَاقِعَ عِبَرِهِ، {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أَخْبَارَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ، وَأَنْبَاءَ الْقُرُونِ الْمُعَذَّبِينَ؟!! وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ نَظَرِ الْعَيْنِ وَسَمَاعِ الْأُذُنِ وَسَيْرِ الْبَدَنِ الْخَالِي مِنَ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَلَا مُوصِلٍ إِلَى الْمَطْلُوبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أَيْ: هَذَا الْعَمَى الضَّارُّ فِي الدِّينِ عَمَى الْقَلْبِ عَنِ الْحَقِّ، حَتَّى لَا يُشَاهِدَهُ كَمَا لَا يُشَاهِدُ الْأَعْمَى الْمَرْئِيَّاتِ، وَأَمَّا عَمَى الْبَصَرِ فَغَايَتُهُ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).

((الِاعْتِبَارُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

وَكَمَا أَوْلَى الْقُرْآنُ الِاهْتِمَامَ بِالِاتِّعَاظِ وَالتَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ؛ كَذَلِكَ أَوْلَتِ السُّنَّةُ الِاهْتِمَامَ بِذَلِكَ، فَشَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ زِيَارَةَ الْقُبُورِ؛ لِلِاتِّعَاظِ بِهَا، وَتَذَكُّرِ الْآخِرَةِ؛ شَرِيطَةَ أَلَّا يَقُولَ عِنْدَهَا مَا يُغْضِبُ الرَّبَّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ كَدُعَاءِ الْمَقْبُورِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ مِنْ دُونِ اللهِ -تَعَالَى-، أَوْ تَزْكِيَتِهِ وَالْقَطْعِ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ، وَلْتَزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرًا، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ فَلْيَزُرْ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمَجْمُوعِ)): ((وَالْهُجْرُ: الْكَلَامُ الْبَاطِلُ، وَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلًا لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَرُبَّمَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الْجَاهِلِيَّةِ الْبَاطِلِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ، وَتَمَهَّدَتْ أَحْكَامُهُ، وَاشْتَهَرَتْ مَعَالِمُهُ؛ أُبِيحَتْ لَهُمُ الزِّيَارَةُ، وَاحْتَاطَ ﷺ بِقَوْلِهِ: ((وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا)) )).

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعَامَّةُ وَغَيْرُهُمْ عِنْدَ الزِّيَارَةِ مِنْ دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَسُؤَالِ اللهِ بِحَقِّهِ لَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْهُجْرِ وَالْقَوْلِ الْبَاطِلِ؛ فَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لَهُمْ حُكْمَ اللهِ فِي ذَلِكَ، وَيُفَهِّمُوهُمُ الزِّيَارَةَ الْمَشْرُوعَةَ، وَالْغَايَةَ مِنْهَا.

وَقَدْ قَالَ الصَّنْعَانِيُّ فِي ((سُبُلِ السَّلَامِ)) عَقِبَ أَحَادِيثَ فِي الزِّيَارَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنْهَا: ((الْكُلُّ دَالٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَأَنَّهَا لِلِاعْتِبَارِ، فَإِذَا خَلَتْ مِنْ هَذِهِ لَمْ تَكُنْ مُرَادَةً شَرْعًا)).

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً، وَلَا تَقُولُوا مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ»، وَكَذَلِكَ ابْنُ مَاجَه فِي «سُنَنِهِ»، وَالْبُخَارِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا- عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا، فَرَأَى جَمَاعَةً اجْتَمَعُوا نَاحِيَةً، فَقَالَ: ((عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟)).

فَقِيلَ: ((إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى قَبْرٍ يَحْفُرُونَهُ))، فَبَدَرَ مِنَّا نَبِيُّنَا ﷺ مُسْرِعًا حَتَّى جَاءَ إِلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَجَثَا عِنْدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى الْقَبْرِ.

قَالَ الْبَرَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَقُلْتُ أَسْتَقْبِلُهُ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ؛ لَأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ، فَإِذَا هُوَ يَبْكِي، وَمَا زَالَ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الثَّرَى -حَتَّى بَلَّ التُّرَابَ النَّدِيَّ- بِدُمُوعِه ﷺ الْمُتَفَجِّرَاتِ مِنْ قَلْبِهِ وَفُؤَادِهِ.

قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: ((أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَلْمَحٍ عَمَلِيٍّ تَطْبِيقِيٍّ وَاقِعِيٍّ مُبْصَرٍ مُشَاهَدٍ مَلْمُوسٍ مَحْسُوسٍ؛ فَإِنَّ الْقَبْرَ كَانَ يُعَدُّ لِاسْتِقْبَالِ مَيِّتٍ، وَقَدْ فَتَحَ فَاهُ وَفَغَرَ فِيهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَلْتَقِمَهُ؛ لِيُغَيِّبَهُ فِي جَوْفِهِ يَتَرَمَّمُ.. يَتَجَيَّفُ، ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدُ تُرَابًا، وَهُنَالِكَ عَذَابٌ عَظِيمٌ، أَوْ نَعِيمٌ مَكِينٌ، لَا يَدْرِي ذَلِكَ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَيَجْثُو النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ يَبْكِي؛ عَلَامَ يَبْكِي ﷺ؟!!

أَلَمْ يَغْفِرْ لَهُ رَبُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

بَلَى؛ قَدْ فَعَلَ؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَسِيرُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَيْرَ الْعَارِفِ بِجَلَالِ قَدْرِهِ، الْمُقَدِّرِ لِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَمَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ بِدُمُوعِهِ التُّرَابَ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَإِلَيْنا مَعًا: «أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هَذَا فَاعْمَلُوا، أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا، أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هَذَا الْمَنْزِلِ فَاسْتَعِدُّوا».

يَقُولُهَا نَبِيُّنَا ﷺ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

((مَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ))

 يَنْزِلُ الْقَلْبُ -بَعْدَ مَنْزِلَةِ الْإِنَابَةِ- مَنْزِلَةَ التَّذَكُّرِ، وَهُوَ قَرِينُ الْإِنَابَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}، وَقَالَ: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.

وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ أُولِي الْأَلْبَابِ -يَعْنِي: التَّذَكُّرَ-، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

وَالتَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ مَنْزِلَانِ يُثْمِرَانِ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ، وَحَقَائِقَ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، فَالْعَارِفُ لَا يَزَالُ يَعُودُ بِتَفَكُّرِهِ عَلَى تَذَكُّرِهِ، وَبِتَذَكُّرِهِ عَلَى تَفَكُّرِهِ حَتَّى يُفْتَحَ قُفْلُ قَلْبِهِ بِإِذْنِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ)).

وَالتَّذَكُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، وَهُوَ حُضُورُ صُورَةِ الْمَذْكُورِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَاخْتِيرَ لَهُ بِنَاءُ التَّفَعُّلِ لِحُصُولِهِ بَعْدَ مُهْلَةٍ وَتَدْرِيجٍ؛ كَالتَّبَصُّرِ، وَالتَّفَهُّمِ، وَالتَّعَلُّمِ.

فَمَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ مِنَ التَّفَكُّرِ مَنْزِلَةُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ التَّفْتِيشِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ آيَاتُ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةُ وَالْمَشْهُودَةُ ذِكْرَى، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- فِي الْمَتْلُوَّةِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ}، وَقَالَ عَنِ الْقُرْآنِ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، وَقَالَ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}.

فَالتَّبْصِرَةُ آلَةُ الْبَصَرِ، وَالتَّذْكِرَةُ آلَةُ الذِّكْرِ، وَقُرِنَ بَيْنَهُمَا، وَجُعِلَا لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ أَبْصَرَ مَوَاقِعَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا هِيَ آيَاتٌ لَهُ؛ فَزَالَ عَنْهُ الْإِعْرَاضُ بِالْإِنَابَةِ، وَالْعَمَى بِالْبَصِيرَةِ، وَالْغَفْلَةُ بِالتَّذْكِرَةِ؛ لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ تُوجِبُ لَهُ حُصُولَ صُورَةِ الْمَدْلُولِ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ غَفْلَتِهِ عَنْهَا، فَتَرَتَّبَتِ الْمَنَازِلُ الثَّلَاثَةُ أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ، ثُمَّ إِنَّ كُلًّا مِنْهَا يُمِدُّ صَاحِبَهُ، وَيُقَوِّيهِ وَيُثَمِّرُهُ.

 ((أَقْسَامُ النَّاسِ فِي التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ))

قَالَ -تَعَالَى- فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.

وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَلْبُهُ مَيِّتٌ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ، فَهَذَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذِكْرَى فِي حَقِّهِ.

الثَّانِي: رَجُلٌ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ مُسْتَعِدٌّ؛ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَمِعٍ لِلْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ الَّتِي يُخْبِرُ بِهَا اللَّهُ عَنِ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ؛ إِمَّا لِعَدَمِ وُرُودِهَا، أَوْ لِوُصُولِهَا إِلَيْهِ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَهُوَ غَائِبُ الْقَلْبِ، لَيْسَ حَاضِرًا، فَهَذَا -أَيْضًا- لَا تَحْصُلُ لَهُ الذِّكْرَى مَعَ اسْتِعْدَادِهِ وَوُجُودِ قَلْبِهِ.

الثَّالِثُ: رَجُلٌ حَيُّ الْقَلْبِ مُسْتَعِدٌّ، تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَأَصْغَى بِسَمْعِهِ، وَأَلْقَى السَّمْعَ، وَأَحْضَرَ قَلْبَهُ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِغَيْرِ فَهْمِ مَا يَسْمَعُهُ، فَهُوَ شَاهِدُ الْقَلْبِ، مُلْقٍ لِلسَّمْعِ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ، وَالْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ.

فَالْأَوَّلُ: بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ، وَهُوَ مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ، لَا قَلْبَ لَهُ.

وَالثَّانِي: بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الطَّامِحِ بِبَصَرِهِ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَكِلَاهُمَا لَا يَرَاهُ.

وَالثَّالِثُ: بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الَّذِي قَدْ حَدَّقَ إِلَى جِهَةِ الْمَنْظُورِ، وَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ، وَقَابَلَهُ عَلَى تَوَسُّطٍ مِنَ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَرَاهُ.

فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ!

اعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ وَقَّادٌ، مَلِيءٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ وَاسْتِنْبَاطِ الْحِكَمِ، فَهَذَا قَلْبُهُ يُوقِعُهُ عَلَى التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَإِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ كَانَتْ لَهُ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَهَؤُلَاءِ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَعْظَمُهُمْ إِيمَانًا وَبَصِيرَةً؛ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ قَدْ كَانَ مُشَاهَدًا لَهُمْ؛ لَكِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِتَفَاصِيلِهِ وَأَنْوَاعِهِ؛ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ مَثَلَ حَالِ الصِّدِّيقِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ دَخَلَا دَارًا، فَرَأَى أَحَدُهُمَا تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا وَجُزْئِيَّاتِهِ، وَالْآخَرُ وَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى مَا فِي الدَّارِ وَلَمْ يَرَ تَفَاصِيلَهُ وَلَا جُزْئِيَّاتِهِ؛ لَكِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عَظِيمَةً لَمْ يُدْرِكْ بَصَرُهُ تَفَاصِيلَهَا، ثُمَّ خَرَجَا، فَسَأَلَهُ عَمَّا رَأَى فِي الدَّارِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ؛ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ شَوَاهِدِهِ، وَهَذِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَمُنَّ اللَّهُ الْمَنَّانُ عَلَى عَبْدٍ بِمِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ وَلَا حُسْبَانٍ.

فَصَاحِبُ هَذَا الْقَلْبِ إِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ وَفِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنَ الْبَصِيرَةِ؛ ازْدَادَ بِهَا نُورًا إِلَى نُورِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مِثْلُ هَذَا الْقَلْبِ فَأَلْقَى السَّمْعَ، وَشَهِدَ قَلْبُهُ وَلَمْ يَغِبْ؛ حَصَلَ لَهُ التَّذَكُّرُ -أَيْضًا-: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}، وَالْوَابِلُ وَالطَّلُّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَآثَارِهَا وَمُوجَبَاتِهَا.

وَأَهْلُ الْجَنَّةِ سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ، وَبَيْنَهُمَا فِي دَرَجَاتِ التَّفْضِيلِ مَا بَيْنَهُمَا؛ حَتَّى إِنَّ شَرَابَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الصِّرْفَ يُطَيَّبُ بِهِ شَرَابُ النَّوْعِ الْآخَرِ، وَيُمْزَجُ بِهِ مَزْجًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.

فَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرَى هَذَا؛ وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ لَوْنٌ، وَرُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ لَهُ لَوْنٌ.

 ((مَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِالْعِظَةِ وَنَوْعَاهَا))

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَبْنِيَةُ التَّذَكُّرِ ثَلَاثَةٌ: الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ، وَالِاسْتِبْصَارُ بِالْعِبْرَةِ، وَالظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ)).

الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ: هُوَ أَنْ يَقْدَحَ فِي الْقَلْبِ قَادِحُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَيَتَحَرَّكَ لِلْعَمَلِ؛ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْخَوْفِ، وَرَغْبَةً فِي حُصُولِ الْمَرْجُوِّ.

وَالْعِظَةُ: هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.

وَالْعِظَةُ نَوْعَانِ: عِظَةٌ بِالْمَسْمُوعِ، وَعِظَةٌ بِالْمَشْهُودِ:

فَالْعِظَةُ بِالْمَسْمُوعِ: الِانْتِفَاعُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْهُدَى وَالرُّشْدِ، وَالنَّصَائِحِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ مِنْ كُلِّ نَاصِحٍ وَمُرْشِدٍ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

وَالْعِظَةُ بِالْمَشْهُودِ: الِانْتِفَاعُ بِمَا يَرَاهُ وَيَشْهَدُهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ مَوَاقِعِ الْعِبَرِ، وَأَحْكَامِ الْقَدَرِ وَمَجَارِيهِ، وَمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ.

وَأَمَّا الِاسْتِبْصَارُ لِلْعِبْرَةِ؛ فَهُوَ زِيَادَةُ الْبَصِيرَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ بِقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ؛ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ يَصْقُلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي حَصَلَتْ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوَاقِعِ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَهُوَ يَظْفَرُ بِهَا بِالتَّفَكُّرِ، وَتَنْصَقِلُ لَهُ وَتَنْجَلِي بِالتَّذَكُّرِ، فَيَقْوَى الْعَزْمُ عَلَى السَّيْرِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الِاسْتِبْصَارِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحْدِيدَ النَّظَرِ فِيمَا يُحَرِّكُ الْطَّلَبَ؛ إِذِ الطَّلَبُ فَرْعُ الشُّعُورِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ الشُّعُورُ بِالْمَحْبُوبِ اشْتَدَّ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَكُلَّمَا اشْتَغَلَ الْفِكْرُ بِهِ ازْدَادَ الشُّعُورُ بِهِ، وَالْبَصِيرَةُ فِيهِ، وَالذِّكْرُ لَهُ.

 ((مَتَى يُنْتَفَعُ بِالْعِظَةِ؟))

وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ  بِالْعِظَةِ بَعْدَ حُصُولِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: شِدَّةِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ، وَتَذَكُّرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

إِنَّمَا يَشْتَدُّ افْتِقَارُ الْعَبْدِ إِلَى الْعِظَةِ- وَهِيَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ- إِذَا ضَعُفَ تَذَكُّرُهُ وَإِنَابَتُهُ؛ وَإِلَّا فَمَتَى قَوِيَتْ إِنَابَتُهُ وَتَذَكُّرُهُ لَمْ تَشْتَدَّ حَاجَتُهُ إِلَى التَّذْكِيرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَكِنْ تَكُونُ الْحَاجَةُ مِنْهُ شَدِيدَةً إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

الْعِظَةُ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمَقْرُونَانِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَنَفْسُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ.

فَالْمُنِيبُ الْمُتَذَكِّرُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْمُعْرِضُ الْغَافِلُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْمُعَارِضُ الْمُنْكِرُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُجَادَلَةِ.

فَجَاءَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الحج: 125].

أَطْلَقَ الْحِكْمَةَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِوَصْفِ الْحَسَنَةِ؛ إِذْ كُلُّهَا حَسَنَةٌ، وَوَصْفُ الْحُسْنِ لَهَا ذَاتِيٌّ.

وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ فَقَيَّدَهَا بِوَصْفِ الْإِحْسَانِ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةً.

وَكَذَلِكَ الْجِدَالُ قَدْ يَكُونُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ حُرِمَ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَتِهِ، يَعْنِي: إِذَا اشْتَغَلَ بِعَيْبِ الْوَاعِظِ، فَأَخَذَ يَتَذَكَّرُهُ وَيَحُومُ حَوْلَهُ؛ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ -حِينَئِذٍ- الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَتِهِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَعْمَلُ بعِلْمِهِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَصِفُ لَهُ الطَّبِيبُ دَوَاءً لِمَرَضٍ بِهِ مِثْلُهُ -أَيْ: بِالطَّبِيبِ نَفْسُ الدَّاءِ-، وَالطَّبِيبُ مُعْرِضٌ عَنْهُ، غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ؛ بَلِ الطَّبِيبُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَذَا الْوَاعِظِ الْمُخَالِفِ لِمَا يَعِظُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ عِنْدَ الطَّبِيبِ دَوَاءٌ آخَرُ يَقُومُ مَقَامَ هَذَا الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى تَرْكِ التَّدَاوِي، وَقَدْ يَقْنَعُ بِعَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ هَذَا الْوَاعِظِ؛ فَإِنَّ مَا يَعِظُ بِهِ طَرِيقٌ مُعَيَّنٌ لِلنَّجَاةِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَلِأَجْلِ هَذِهِ النَّفْرَةِ قَالَ شُعَيْبٌ -صَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ فَإِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْفَاعِلِينَ لَهُ، الْمُؤْتَمِرِينَ بِهِ، وَإِذَا نَهَيْتَ عَنْ شَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْمُنْتَهِينَ عَنْهُ، وَقَدْ قِيلَ:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ                   =       هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ؟!

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضَّنَى     =    وَمِنَ الضَّنَى تُمْسِي وَأَنْتَ سَقِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ               =      عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا            =       فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى           =       بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

فَالْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ مِنْ شُرُوطِ تَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَوْعِظَتِهِ.

وَأَمَّا تَذَكُّرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ خَشْيَتَهُ وَالْحَذَرَ مِنْهُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَوْعِظَةُ إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَخَافَهُ وَرَجَاهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ}، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.

فَالْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَذِكْرُهُ شَرْطٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْعِظَاتِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ بِدُونِهِ.

وَإِنَّمَا تُسْتَبْصَرُ الْعِبْرَةُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِحَيَاةِ الْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَيَّامِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَغْرَاضِ.

وَالْعِبْرَةُ هِيَ الِاعْتِبَارُ، وَحَقِيقَتُهَا: الْعُبُورُ مِنْ حُكْمِ الشَّيْءِ إِلَى حُكْمِ مِثْلِهِ، فَإِذَا رَأَى مَنْ قَدْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ لِسَبَبٍ ارْتَكَبَهُ؛ عَلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ السَّبَبَ كَحُكْمِهِ.

وَحَيَاةُ الْعَقْلِ هِيَ صِحَّةُ الْإِدْرَاكِ، وَقُوَّةُ الْفَهْمِ وَجَوْدَتُهُ، وَتَحْقِيقُ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالتَّضَرُّرِ بِهِ، وَهُوَ نُورٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَبِحَسَبِ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ ذَلِكَ النُّورِ وَضَعْفِهِ، وَوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ.. يَقَعُ تَفَاوُتُ أَذْهَانِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ النُّورِ الْبَاصِرِ إِلَى الْعَيْنِ.

وَمِنْ تَجْرِيبَاتِ السَّالِكِينَ الَّتِي جَرَّبُوهَا فَأَلْفَوْهَا صَحِيحَةً: أَنَّ مَنْ أَدْمَنَ قَوْلَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ؛ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ.

وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- شَدِيدَ اللَّهْجِ بِهَا جِدًّا، وَقَالَ لِي يَوْمًا -لِابْنِ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ--: لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَهُمَا: الْحَيُّ الْقَيُّومُ- تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَكَانَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمَا الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ وَاظَبَ عَلَى: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ؛ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ.

وَمَنْ عَلِمَ عُبُودِيَّاتِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالدُّعَاءَ بِهَا، وَسِرَّ ارْتِبَاطِهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَبِمَطَالِبِ الْعَبْدِ وَحَاجَاتِهِ؛ عَرَفَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَطْلُوبٍ يُسْأَلُ بِالِاسْمِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، فَتَأَمَّلْ أَدْعِيَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ تَجِدْهَا كَذَلِكَ.

وَإِنَّمَا تُسْتَبْصَرُ الْعِبْرَةُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِحَيَاةِ الْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَيَّامِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَغْرَاضِ..

وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْأَيَّامِ؛ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَيَّامَهُ الَّتِي تَخُصُّهُ، وَمَا يَلْحَقُهُ فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَيَعْلَمُ قِصَرَهَا، وَأَنَّهَا أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ مُنْصَرِمَةٌ، كُلُّ نَفَسٍ مِنْهَا يُقَابِلُهُ آلَافُ آلَافٍ مِنَ السِّنِينَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ نِسْبَةٌ قَطُّ إِلَى أَيَّامِ الْبَقَاءِ، وَالْعَبْدُ مُنْسَاقٌ زَمَنَهُ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ إِلَى النَّعِيمِ أَوْ إِلَى الْجَحِيمِ، وَهِيَ كَمُدَّةِ الْمَنَامِ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ حَيٌّ وَقَلْبٌ وَاعٍ، فَمَا أَوْلَاهُ أَلَّا يَصْرِفَ مِنْهَا نَفَسًا إِلَّا فِي أَحَبِّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ، فَلَوْ صَرَفَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَتَرَكَ الْأَحَبَّ لَكَانَ مُفَرِّطًا؛ فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ؟!! فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا يَمْقُتُهُ عَلَيْهِ رَبُّهُ؟!!

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَيَّامِ أَيَّامَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ رُسُلَهُ بِتَذْكِيرِ أُمَمِهِمْ بِهَا، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]، وَقَدْ فُسِّرَتْ أَيَّامُ اللَّهِ بِنِعَمِهِ، وَفُسِّرَتْ بِنِقَمِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَالْأَوَّلُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالثَّانِي تَفْسِيرُ مُقَاتِلٍ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ أَيَّامَهُ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَهِيَ وَقَائِعُهُ الَّتِي أَوْقَعَهَا بِأَعْدَائِهِ، وَهِيَ نِعَمُهُ الَّتِي سَاقَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ النِّعَمُ وَالنِّقَمُ الْكِبَارُ الْمُتَحَدَّثُ بِهَا أَيَّامًا؛ لِأَنَّهَا ظَرْفٌ لَهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَيْ: بِالْوَقَائِعِ الَّتِي كَانَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ.

فَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَيَّامِ تُوجِبُ لِلْعَبْدِ الِاسْتِبْصَارَ لِلْعِبْرَةِ، وَبِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا تَكُونُ عِبْرَتُهُ وَعِظَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.

وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَهِيَ مُتَابَعَةُ الْهَوَى، وَالِانْقِيَادُ لِدَاعِي النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَطْمِسُ نُورَ الْعَقْلِ، وَيُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ، وَيَصُدُّ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيُضِلُّ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا تَحْصُلُ بَصِيرَةُ الْعِبْرَةِ مَعَهُ الْبَتَّةَ، وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ فَسَدَ رَأْيُهُ، وَفَسَدَ نَظَرُهُ، فَأَرَتْهُ نَفْسُهُ الْحَسَنَ فِي صُورَةِ الْقَبِيحِ، وَالْقَبِيحَ فِي صُورَةِ الْحَسَنِ، فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ؛ فَأَنَّى لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالتَّذَكُّرِ، أَوْ بِالتَّفَكُّرِ، أَوْ بِالْعِظَةِ؟!!

((مَجَالَاتُ الِاعْتِبَارِ وَأَنْوَاعُهُ))

عِبَادَ اللهِ، لَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى أَخْذِ الْعِبْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ؛ حَتَّى تَسْتَقِيمَ حَيَاتُهُ؛ فَلِذَلِكَ خَاطَبَ اللهُ -تَعَالَى- الْخَلْقَ بِأَمْرِ الْعِبْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصَالِحَ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

وَقَدْ تَنَوَّعَتْ مَجَالَاتُ الِاعْتِبَارِ فِي کِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- بَيْنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].

((وَمِنْ دَلَائِلِ قُدْرَةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: أَنَّهُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِمَجِيءِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَاخْتِلَافِهِمَا طُولًا وَقِصَرًا؛ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةً يَعْتَبِرُ بِهَا كُلُّ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ)).

وَكَذَلِكَ مِنْ مَجَالَاتِ الِاعْتِبَارِ: النَّظَرُ فِي قِصَصِ السَّالِفِينَ، وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْهَا فِي حَيَاتِنَا الْحَاضِرَةِ، وَهَذَا مَجَالٌ عَمَلِيٌّ يَتَمَثَّلُ فِي امْتِثَالِ الْبَشَرِ لِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- بِإِقَامَةِ الْحَيَاةِ عَلَى هُدًى مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].

(({لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أَيْ: قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَعَ قَوْمِهِمْ {عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أَيْ: يَعْتَبِرُونَ بِهَا أَهْلُ الْخَيْرِ وَأَهْلُ الشَّرِّ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ نَالَهُ مَا نَالَهُمْ مِنْ كَرَامَةٍ أَوْ إِهَانَةٍ، وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا -أَيْضًا- مَا للهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّهُ اللهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)).

((مِنْ مَجَالَاتِ الِاعْتِبَارِ: الِاعْتِبَارُ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ مِمَّا دَعَانَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِهِ: آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةَ؛ لِتَدُلَّكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 20-23].

((يَقُولُ تَعَالَى -دَاعِيًا عِبَادَهُ إِلَى التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ-: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} وَذَلِكَ شَامِلٌ لِنَفْسِ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ، وَبِحَارٍ، وَأَنْهَارٍ، وَأَشْجَارٍ، وَنَبَاتٍ تَدُلُّ الْمُتَفَكِّرَ فِيهَا الْمُتَأَمِّلَ لِمَعَانِيهَا عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، وَسِعَةِ سُلْطَانِهِ، وَعَمِيمِ إِحْسَانِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ.

وَكَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ سُدًى.

وَقَوْلُهُ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أَيْ: مَادَّةُ رِزْقِكُمْ مِنَ الْأَمْطَارِ، وَصُنُوفُ الْأَقْدَارِ، الرِّزْقُ الدِّينِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ، {وَمَا تُوعَدُونَ} مِنَ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَسَائِرِ الْأَقْدَار.

فَلَمَّا بَيَّنَ الْآيَاتِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهَا تَنْبِيهًا يَنْتَبِهُ بِهِ الذَّكِيُّ اللَّبِيبُ؛ أَقْسَمَ -تَعَالَى- عَلَى أَنَّ وَعْدَهُ وَجَزَاءَهُ حَقٌّ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِأَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ لَنَا، وَهُوَ النُّطْقُ، فَقَالَ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}، فَكَمَا لَا تَشُكُّونَ فِي نُطْقِكُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي الشَّكُّ فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ)).

 مَنْ نَظَرَ إِلَى الْأَرْضِ {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] وَمَا فِيهَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْعَظِيمَةِ؛ يَعْلَمُ بِهَا تَمَامَ قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، مَهَّدَهَا اللهُ -تَعَالَى- لِخَلْقِهِ، وَسَلَكَ لَهُمْ فِيهَا سُبُلًا، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا، وَبَارَكَ فِيهَا، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، جَعَلَهَا اللهُ لِعِبَادِهِ ذَلُولًا يَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، وَيَأْكُلُونَ مِنْ رِزْقِهِ، فَيَحْرُثُونَ وَيَزْرَعُونَ، وَيَصِلُونَ إِلَى الْمِيَاهِ فِي جَوْفِهَا فَيَسْقُونَ وَيَشْرَبُونَ، جَعَلَهَا اللهُ -تَعَالَى- قَرَارًا لِلْخَلْقِ، لَا تَمِيدُ بِهِمْ، وَلَا تَضْطَرِبُ وَلَا تَزَلْزَلُ وَلَا تَتَصَدَّعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ -تَعَالَى-، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7]

وَالْأَرْضَ بَسَطْنَاهَا وَوَسَّعْنَاهَا، وَأَمْدَدْنَاهَا بِالْعَنَاصِرِ الصَّالِحَةِ لِنَفْعِ النَّاسِ وَرِزْقِهِمْ، وَأَلْقَيْنَا فِيهَا جِبَالًا ثَوَابِتَ تَمْنَعُهَا مِنَ الْمَيَلَانِ وَالِاضْطِرَابِ، وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ كَرِيمٍ حَسَنٍ يُسَرُّ بِهِ النَّاظِرُ إِلَيْهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27-32].

وَدَحْرَجَ الْأَرْضَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا كُرَوِيَّةً تَدُورُ حَوْلَ نَفْسِهَا فِي اتِّجَاهِ الشَّمْسِ دَوْرَةً كَامِلَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا ظَاهِرَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَدُورُ فِي مَدَارٍ حَوْلَ الشَّمْسِ دَوْرَةً كَامِلَةً فِي كُلِّ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، أَخْرَجَ مِنَ الْأَرْضِ مَاءَهَا بِتَفْجِيرِ الْعُيُونِ، وَإِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الْعِظَامِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا جَمِيعَ مَا يَقْتَاتُ بِهِ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ، وَالْجِبَالَ أَثْبَتَهَا فِي الْأَرْضِ كَالْأَوْتَادِ لِيُثَبِّتَ قِشْرَتَهَا؛ كَيْ لَا تَمِيدَ وَتَضْطَرِبَ؛ فَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ لَكُمْ؛ مَنْفَعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ يَنْتَهِي هَذَا الِانْتِفَاعُ الْمُؤَقَّتُ.

فَنِعْمَةُ الْأَرْضِ وَتَسْخِيرُهَا وَتَمْهِيدُهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَّرَ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَيْهَا، قَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

((هُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْأَرْضَ وَذَلَّلَهَا؛ لِتُدْرِكُوا مِنْهَا كُلَّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُكُمْ؛ مِنْ غَرْسٍ، وَبِنَاءٍ، وَحَرْثٍ، وَطُرُقٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ وَالْبُلْدَانِ الشَّاسِعَةِ؛ {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أَيْ: لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَالْمَكَاسِبِ.

{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أَيْ: بَعْدَ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ امْتِحَانًا، وَبُلْغَةً يُتَبَلَّغُ بِهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ.. تُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَتُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ؛ لِيُجَازِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ)).

فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْعِظَاتِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ وَاصِفٌ، وَلَا يُحْصِيهِ قَلَمُ حَاسِبٍ؛ وَلَكِنْ حَسْبَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا يُدْرِكُهُ مِنْهَا وَيَعْتَبِرُ بِهِ نَظَرَ اعْتِبَارِ فِي أَنَّ اللهَ مَا خَلَقَهَا عَبَثًا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَإِنَّمَا خَلَقَهَا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، سَخَّرَهَا لِعِبَادِهِ، وَسَخَّرَ مَا فِيهَا لِعِبَادِهِ بَنِي آدَمَ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ -سُبْحَانَهُ- وَعِبَادَتِهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَنْظُرَ فِيهَا نَظَرَ اعْتِبَارٍ، لَا نَظَرَ نُزْهَةٍ كَمَا يَحْصُلُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ!!  

 وَكَذَلِكَ تَعَاقُبُ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ، وَاخْتِلَافُ أَحْوَالِهِمَا، وَتَقَلُّبُ أَجْوَائِهِمَا؛ فِي ذَلِكَ عِظَةٌ لِأَصْحَابِ الْبَصَائِرِ النَّافِذَةِ، وَعِبْرَةٌ لِأَهْلِ الْعُقُولِ الْوَاعِيَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].

يُغَيِّرُ اللهُ أَحْوَالَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ؛ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ حَوْلَ نَفْسِهَا وَحَوْلَ الشَّمْسِ؛ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةً لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ.

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].

((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُتَعَاقِبَيْنِ يَخْلُفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَا فِي ذَلِكَ؛ إِيمَانًا بِالْمُدَبِّرِ الْخَالِقِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْكُرَ للهِ -تَعَالَى- عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ)).

كَمَا أَنَّ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللهُ فِي الْأَنْعَامِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا بَنُو الْإِنْسَانِ عِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ؛ حَيْثُ بَيَّنَ الْقَدِيرُ -سُبْحَانَهُ- فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يَسْقِينَا مِنْ ضُرُوعِ الْأَنْعَامِ لَبَنًا خَالِصًا نَقِيًّا لَذِيذًا يَطِيبُ لِلشَّارِبِينَ، مَعَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ مَا يَحْتَوِيهِ الْبَطْنُ مِنْ فَضَلَاتٍ، وَمَا فِي الْجِسْمِ مِنْ دَمٍ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].

(({وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ} الَّتِي سَخَّرَهَا اللَّهُ لِمَنَافِعِكُمْ {لَعِبْرَةً} تَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَسِعَةِ إِحْسَانِهِ؛ حَيْثُ أَسْقَاكُمْ مِنْ بُطُونِهَا الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْفَرْثِ وَالدَّمِ، فَأَخْرَجَ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ لَبَنًا خَالِصًا مِنَ الْكَدَرِ، سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ لِلَذَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ يُسْقِي وَيُغَذِّي؛ فَهَلْ هَذِهِ إِلَّا قُدْرَةٌ إِلَهِيَّةٌ، لَا أُمُورٌ طَبِيعِيَّةٌ؟!!

فَأَيُّ شَيْءٍ فِي الطَّبِيعَةِ يَقْلِبُ الْعَلَفَ الَّذِي تَأْكُلُهُ الْبَهِيمَةُ، وَالشَّرَابَ الَّذِي تَشْرَبُهُ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَالْمِلْحَ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ؟!!)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21].

((وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ: أَنْ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ؛ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، فِيهَا عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَمَنَافِعُ لِلْمُنْتَفِعِينَ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا مِنْ لَبَنٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ خَالِصٍ سَائِغٍ لِلشَّارِبِينَ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ، وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ أَفْضَلَ الْمَآكِلِ مِنْ لَحْمٍ وَشَحْمٍ)).

((مِنْ أَعْظَمِ مَجَالَاتِ الِاعْتِبَارِ: الِاعْتِبَارُ بِقَصَصِ الْقُرْآنِ))

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- القَصَصَ القُرْآنِيَّ لِلتَّفَكُّرِ وَالعِبْرَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: {ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 176-177].

(({فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}: اقْصُصْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- أَخْبَارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ؛ فَفِي إِخْبَارِكَ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مُعْجِزَةٍ؛ لَعَلَّ قَوْمَكَ يَتَدَبَّرُونَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ فَيُؤْمِنُوا لَكَ)).

وَقَالَ -تَعَالَى-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ عِبْرَةٌ لِأَهْلِ الْحِجَا وَالْعُقُولِ يَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَمَوْعِظَةٌ يَتَّعِظُونَ بِهَا)).

فَصَرَّحَ القُرْآنُ بِأَنَّ فِي تِلْكَ القَصَصِ عِبْرَةً، وَطَرِيقُ الِاعْتِبَارِ بِتِلْكَ القَصَصِ هُوَ تَدَبُّرُ القُرْآنِ.

وَقَدْ أَحْسَنَ الإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الأَعْرَافِ -التِي مَرَّتْ-؛ حَيْثُ كَانَ عَمَلُهُ مِثَالًا يُحْتَذَى فِي التَّدَبُّرِ، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-:  «وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ...}؛ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: فَاقْصُصْ -يَا مُحَمَّدُ- هَذَا القَصَصَ الذِي اقْتَصَصْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا، وَأَخْبَارِ الأُمَمِ التِي أَخْبَرْتُكَ أَخْبَارَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاقْتَصَصْتُ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ وَنَبَأَ أَشْبَاهِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عُقُوبَتِنَا، وَنَـزَلَ بِهِمْ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَنَا مِنْ نِقْمَتِنَا.

اقْصُصْ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ قِبَلَكَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ، فَيَعْتَبِرُوا وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِنَا؛ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ الذِي حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ النِّقَمِ وَالمَثُلَاتِ، وَيَتَدَبَّرَهُ اليَهُودُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَيَعْلَمُوا حَقِيقَةَ أَمْرِكَ وَصِحَّةَ نُبُوَّتِكَ، إِذْ كَانَ نَبَأُ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا مِنْ خَفِيِّ عُلُومِهِمْ، وَمَكْنُونِ أَخْبَارِهِمْ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَمَنْ قَرَأَ الكُتُبَ وَدَرَسَهَا مِنْهُمْ، وَفِي عِلْمِكَ بِذَلِكَ وَأَنْتَ أُمِّيٌّ لَا تَكْتُبُ، وَلَا تَقْرَأُ، وَلَا تَدْرُسُ الكُتُبَ، وَلَمْ تُجَالِسْ أَهْلَ العِلْمِ  الحُجَّةُ البَيِّنَةُ لَكَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّكَ للهِ رَسُولٌ، وَأَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ مَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ وَحَالُكَ الحَالُ التِي أَنْتَ بِهَا إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ)).

فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَثَرُ القَصَصِ القُرْآنِيِّ فِي الهِدَايَةِ وَالإِيمَانِ وَاليَقِينِ عِنْدَ التَّدَبُّرِ الصَّحِيحِ، وَالتَّأَمُّلِ بِقَصْدِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ.

لَقَدْ قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ قِصَصًا طَيِّبَةً مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِ، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَهَذَا الْوَصْفُ مِنَ اللهِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَصْدَقُهَا وَأَبْلَغُهَا وَأَنْفَعُهَا لِلْعِبَادِ؛ فَمِنْ أَهَمِّ مَنَافِعِ هَذِهِ الْقِصَصِ: أَنَّ بِهَا يَتِمُّ وَيَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ-؛ فَإِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا مُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ؛ فَالْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قِصَصِهِمْ، وَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الصِّدْقِ الْكَامِلِ، وَالْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْأَوْصَافِ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الْفَضْلِ وَالْفَوَاضِلِ وَالْإِحْسَانِ عَلَى جَمِيعِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ؛ بَلْ وَصَلَ إِحْسَانُهُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِمَا أَبْدَوْهُ لِلْمُكَلَّفِينَ فِي الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا؛ فَهَذَا الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ بِالْأَنْبِيَاءِ يَصِلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، وَهُوَ مِنْ مَوَادِّ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ.

فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ فِي قِصَصِهِمْ تَقْرِيرَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَإِخْلَاصَ الْعَمَلِ لَهُ، وَالْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبَيَانَ حُسْنِ التَّوْحِيدِ وَوُجُوبَهُ، وَقُبْحَ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُ سَبَبُ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَفِي قِصَصِهِمْ -أَيْضًا- عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، يَقْتَدُونَ بِهِمْ فِي جَمِيعِ مَقَامَاتِ الدِّينِ؛ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ وَالْقِيَامِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَفِي مَقَامَاتِ الدَّعْوَةِ، وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ جَمِيعِ النَّوَائِبِ الْمُقْلِقَةِ، وَمُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ التَّامِّ، وَفِي مَقَامِ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ للهِ فِي جَمِيعِ الْحَرَكاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، لَا يَطْلُبُونَ مِنَ الْخَلْقِ أَجْرًا وَلَا جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِلَّا الْأُمُورَ النَّافِعَةَ لِلْخَلْقِ.

وَفِيهَا -أَيْضًا- عِبْرَةٌ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَأُصُولٍ وَاحِدَةٍ، وَدَعْوَةٌ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ وَإِصْلَاحٍ، وَزَجْرُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ.

وَفِيهَا -أَيْضًا- مِنَ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَسْرَارِ الْحُكْمِيَّةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا غِنَى لِكُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ عَنْهَا.

وَفِيهَا أَيْضًا -أَيْ: فِي قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ- مِنَ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَتَيْسِيرِ الْأُمُورِ بَعْدَ تَعَسُّرِهَا، وَحُسْنِ الْعَوَاقِبِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مَا فِيهِ زَادٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَسُرُورٌ لِلْعَابِدِينَ، وَسَلْوَةٌ لِلْمَحْزُونِينَ، وَمَوَاعِظُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَلَيْسَ الْمَقْصُودَ مِنْ قِصَصِهِمْ أَنْ تَكُونَ فَقَطْ سَمَرًا، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ تَذْكِيرًا وَعِبَرًا.

وَمِنَ الْقِصَصِ الَّتِي قَصَّهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ: قِصَّةُ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ وَ((هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ أَعْجَبِ الْقِصَصِ، وَذَكَرَهَا اللهُ جَمِيعًا، وَأَفْرَدَهَا بِسُورَةٍ مُطَوَّلَةٍ مُفَصَّلَةٍ تَفْصِيلًا وَاضِحًا، قِرَاءَتُهَا تُغْنِي عَنِ التَّفْسِيرِ؛ فَإِنَّ اللهَ سَاقَ فِيهَا حَالَةَ يُوسُفَ مِنَ ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ التَّنَقُّلَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَقَالَ فِيهَا: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [ يوسف: 7 ].

إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَحْسَنِ الْقِصَصِ وَأَوْضَحِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّنَقُّلَاتِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمِنْ مِحْنَةٍ إِلَى مِحْنَةٍ، وَمِنْ مِحْنَةٍ إِلَى مِنْحَةٍ وَمِنَّةٍ، وَمِنْ ذُلٍّ إِلَى عِزٍّ، وَمِنْ أَمْنٍ إِلَى خَوْفٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ مِلْكٍ إِلَى رِقٍّ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ فُرْقَةٍ وَشَتَاتٍ إِلَى انْضِمَامٍ وَائْتِلَافٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ سُرُورٍ إِلَى حُزْنٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ رَخَاءٍ إِلَى جَدْبٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ ضِيقٍ إِلَى سَعَةٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ وُصُولٍ إِلَى عَوَاقِبَ حَمِيدَةٍ؛ فَتَبَارَكَ مَنْ قَصَّهَا وَجَعَلَهَا عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

((الِاعْتِبَارُ بِمَصِيرِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ))

لَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ حَافِلٌ بِالْكَثِيرِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَصَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَالِاتِّعَاظِ بِمَا عُوقبُوا بِهِ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ أمْرَ رَبِّهِمْ، وَالسَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ} [طه: 128].

((أَيْ: أَفَلَمْ يَهْدِ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعْرِضِينَ، وَيَدُلَّهُمْ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِ الرَّشَادِ، وَتَجَنُّبِ طَرِيقِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِالْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ وَالْأُمَمِ الْمُتَتَابِعَةِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَصَصَهُمْ، وَيَتَنَاقَلُونَ أَسْمَارَهُمْ، وَيَنْظُرُونَ بِأَعْيُنِهِمْ مَسَاكِنَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ كَقَوْمِ هُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَنَا، وَأَعْرَضُوا عَنْ كُتُبِنَا أَصَبْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ؟!!

فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ؟!!

{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}؟! لَا شَيْءَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ خَيْرًا مِنْ أُولَئِكَ حَتَّى يُدْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ بِخَيْرِهِمْ، بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَخَيْرِ الْكُتُبِ، وَلَيْسَ لَهُمْ بَرَاءَةٌ مَزْبُورَةٌ وَعَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَيْسُوا كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ جَمْعَهُمْ يَنْفَعُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ، بَلْ هُمْ أَذَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِهْلَاكُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بِذُنُوبِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ؛ لِكَوْنِهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ، وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ مَا كُلُّ أَحَدٍ يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ، إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أُولُوا النُّهَى؛ أَيِ: الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَالْأَلْبَابِ الَّتِي تَزْجُرُ أَصْحَابَهَا عَمَّا لَا يَنْبَغِي)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 8-9].

(({وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَعِدُّوا لِلِقَائِهِ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا رُسُلَهُ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهِ.

وَهَذَا الْكُفْرُ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلِ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ دَلَّتْ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ؛ وَلِهَذَا نَبَّهَهُمْ عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَخَالَفُوا أَمْرَهُمْ مِمَّنْ هُمْ أَشَدُّ مِنْ هَؤُلَاءِ قُوَّةً، وَأَكْثَرُ آثَارًا فِي الْأَرْضِ؛ مِنْ بِنَاءِ قُصُورٍ وَمَصَانِعَ، وَمِنْ غَرْسِ أَشْجَارٍ، وَمِنْ زَرْعٍ، وَإِجْرَاءِ أَنْهَارٍ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ، وَلَا نَفَعَتْهُمْ آثَارُهُمْ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى الْحَقِّ وَصِحَّةِ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ؛ فَإِنَّهُمْ حِينَ يَنْظُرُونَ فِي آثَارِ أُولَئِكَ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أُمَمًا بَائِدَةً، وَخَلْقًا مُهْلَكِينَ، وَمَنَازِلَ بَعْدَهُمْ مُوحِشَةً، وَذَمًّا مِنَ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ مُتَتَابِعًا.

وَهَذَا جَزَاءٌ مُعَجَّلٌ، نَمُوذَجٌ لِلْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ وَمُبْتَدَأٌ لَهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ لَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْإِهْلَاكِ، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَتَسَبَّبُوا فِي هَلَاكِهَا)).

إِنَّ الْمُؤَرِّخَ ضِيَاءَ الدِّينِ بْنَ الْأَثِيرِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- أَخْرَجَ فِي حَوَادِثِ عَامِ سَبْعَةَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مِائَةٍ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ (617هـ)، يُؤَرِّخُ لِوَقَائِعِ دُخُولِ التَّتَارِ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ تِلْكَ النَّكْبَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مُنِيَتْ بِهَا دِيَارُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.

فَيَقُولُ: «وبَقِيتُ دَهْرًا مُتَطَاوِلًا يَقْرُبُ مِنْ عَشْرَةِ أَعْوَامٍ وَأَنَا أُقَدِّمُ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَلَا تُطَاوِعُنِي نَفْسِي أَنْ أَكْتُبَ فِي هَذَا الْخَطْبِ الْعَظِيمِ حَرْفًا، وَمَنِ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ نَعْيَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؟!!

فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي! وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ ذَلِكَ وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا!)).

قَالَ: ((ثُمَّ آمَرَنِي بَعْضُ الْأَصْدِقَاءِ عَلَى ضَرُورَةِ كِتَابَةِ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَالتَّأْرِيخِ لَهُ، فَكَتَبْتُ)).

وَفِي بَعْضِ مَا كَتَبَ ابْنُ الْأَثِيرِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- قَالَ: ((وَأَلْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَوْفَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّتَارِ خَوْفًا عَظِيمًا مُتَنَامِيًا مُتَرَامِيًا أَطْرَافُهُ؛ حَتَّى إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ التَّتَرِيَّ الْفَارِسَ كَانَ يَدْخُلُ الْقَرْيَةَ مِنَ الْقُرَى أَوِ الدَّرْبَ مِنَ الدُّرُوبِ، وَفِيهِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ مَعَ هَذَا التَّتَرِيِّ أَحَدٌ إِلَّا سَيْفَهُ فَقَطْ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَمَا يَرْفَعُ أَحَدُهُمْ فِي وَجْهِهِ صَوْتًا، وَلَا يُحَرِّكُ أُصْبُعًا؛ مِمَّا أَلْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ التَّتَارِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ)).

قَالَ: ((وَحَكَى لِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ فِي كَلَامِهِ: أَنَّ فَارِسًا مِنَ التَّتَارِ دَخَلَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ دَرْبًا مِنَ الدُّرُوبِ فَوَجَدَ مُسْلِمًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ التَّتَرِيِّ مَا يَقْتُلُ بِهِ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ، فَأَمَرَ التَّتَرِيُّ الْمُسْلِمَ بِأَنْ يَنَامَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنْ يَضَعَ خَدَّهُ عَلَى التُّرَابِ، وَأَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يَذْهَبَ التَّتَرِيُّ فَيَأْتِيَ بِمَا يَقْتُلُ بِهِ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ.

وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُسْلِمَ انْصَاعَ لِأَمْرِ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ الْأَغْلَمِ، وَنَامَ عَلَى الْأَرْضِ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى التُّرَابِ؛ مُنْتِظَرًا مَنْ يَأْتِيهِ بِمَا يَذْبَحُهُ بِهِ، وَقَدْ فَعَلَ!!)).

قَالَ: ((وَحَكَى لِي بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَتَاهُمْ يَوْمًا وَكَانُوا جَمَاعَةً سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا -أَتَاهَم- تَتَرِيٌّ فَارِسٌ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُكَتِّفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: وَأَقْبَلَ الْقَوْمُ يَفْعَلُونَ، فَقُلْتُ: وَيْحَكُمْ! إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ؛ فَلَوْ أَنَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِ فَقَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَرْفَعَ إِلَى التَّتَرِيِّ بَصَرَهُ!!

قَالَ: وَأَقْبَلْتُ عَلَى الرَّجُلِ، فَاسْتَلَلْتُ سِكِّينًا فَذَبَحْتُهُ بِهَا، وَنَجَوْتُ بِمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).

مَا الَّذِي أَوْصَلَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذَا الدَّرْكِ الْهَابِطِ فِي بَعْضِ تَارِيخِهِمْ؟!! وَهُوَ مُعَرِّضٌ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ مَتَى مَا تَرَكُوا أَسْبَابَ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ وَالْقُوَّةِ، وَأَخَذُوا بِأَسْبَابِ الْحِطَّةِ وَالذِّلَةِ وَالِانْحِطَاطِ.. مُعَرِّضٌ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ إِلَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، وَأَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ -إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا-.

لَوْ أَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى أَحْوَالِ التَّارِيخِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ السَّحِيقِ بِظُلُمَاتِهِ الْمُتَرَاكِمَاتِ؛ لَوَجَدْتَ الْأَسْبَابَ الصَّارِخَاتِ تَدْعُوا جَمِيعًا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ, وَإِلَى أَبْعَدَ مِمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ.

وَأَعْظَمُ مَا سَلَّطَ رَبُّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ -وَهُوَ مُسَلِّطٌ بَعْضَهُ أَوْ كلَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مَتَى مَا أَخَذُوا بِأَسْبَابِهِ -: (الْخَوْفُ).

الْخَوْفُ الَّذِي يُشِلُّ الْحَرَكَةَ، وَيُمِيتُ الْعَزْمَ، وَيُفْسِدُ الْإِرَادَةَ، وَيَقْتُلُ الْحَيَاةَ.

الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ عَدُوُّ الْحَيَاةِ بِحَقٍّ، وَالَّذِي جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُحَرِّرَ مِنْهُ الْعِبَادَ، كَمَا قَالَ قَائِلُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدُ لِلْفَارِسِيِّ مِنْ عَبَدَةِ النَّارِ؛ لِيُبَيِّنَ دَعْوَةَ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ بِأَمْرِ الْعَزِيزِ الْقَهَّارِ الْغَفَّارِ: ((إنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ابْتَعَثَنَا لِنُخْرِجَ الْعِبَادَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعِبَادِ)).

النَّاظِرُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي زَمَنِ التَّتَارِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الْعِبْرَةَ، وَأَنْ يَسْتَخْلِصَ الْمَوْعِظَةَ، وَأَنْ تَكُونَ عَيْنُ قَلْبِهِ وَعَيْنُ بَصِيرَتِهِ مُسَلَّطَةً عَلَى أَحْوَالِ عَالَمِهِ؛ حَتَّى لَا تَتَكَرَّرَ الْمَأْسَاةُ، رُبَّمَا عَلَى يَدِ أَذَلِّ شَعْبٍ وَأَخَسِّهِ فِي الْأَرْضِ قَطُّ!! مَنْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِمْ مَا فِيهِمْ مِنْ سُوءِ الطِّبَاعِ، وَمَا فِيهِمْ مِنْ سُوءِ الْجِبِلَّةِ، وَمَا هُمْ بِهِ مِنْ إِخْوَانِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، هُمْ أَذَلُّ شَعْبٍ وَأَحَطُّهُ قَطُّ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَالَمَ إِلَى أَنْ يَرِثَهُ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ فِي سُنَّتِهِ.

غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ- يَنْبَغِي أَلَّا يُؤْخَذَ فَطِيرًا سَطْحِيًّا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ, وَتُغْفَلُ فِيهِ بَقِيَّةُ الزَّوَايَا, وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي النَّظَرِ أَنْ نَفْعَلَ كَمَا يَفْعَلُ الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ؛ إِذْ يُقْبِلُ عَلَى مَرِيضِهِ يَسْمَعُ شَكْوَاهُ، وَيَنْظُرُ فِي أَعْرَاضِهِ، ثُمَّ يَضَعُ فِي رَأْسِهِ خُطَّةً مِنْ أَجْلِ مُعَالَجتِهِ وَمُدَاوَاتِهِ، لَا يُعَالِجُ فِيهَا أَعْرَاضَهُ، وَإِنَّمَا يَبْحَثُ فِيهَا عَنْ أَصْلِ دَائِهِ، وَعَنْ مَكْمَنِ عِلَّتِهِ؛ فَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ لَا يُدَاوِي الْأَعْرَاضَ، وَلَا يُعَالِجُ الظَّوَاهِرَ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِطَرَفِ الْخَيْطِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالظَّوَاهِرِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مَكْمَنِ الْعِلَّةِ، وَعَنْ أَصْلِ الدَّاءِ.

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الشَّأْنُ فِي النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ بِعَامَّةٍ، وَفِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِخَاصَّةٍ -زَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُسْلِمِينَ عِزَّةً وَكَرَامَةً، وَرَدَّهُمْ إِلَى دِينِهِ رَدًّا جَمِيلًا؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

الْأَصْلُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُفْسِدُ الرُّوحَ، وَهِيَ سَمُّ الرُّوحِ - وَكَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ بِضَمِّ السِّينِ: سُمُّ الرُّوحِ-، كَمَا أَنَّ الْبَدَنَ يَتَعَرَّضُ لِلْمَرَضِ بِأَسْبَابِهِ وَمُشَخِّصَاتِهِ وَعِلَلِهِ فَيَمْرَضُ، فَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَانُونِ الصِّحَّةِ، وَلَا تَسْتَقِيمُ بِهِ الْحَيَاةُ, فَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ تَدْخُلُ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَعَلَى الْقُلُوبِ، ثُمَّ هِيَ عَامِلَةٌ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ، وَعَلَى مُسْتَوَى الْمَجْمُوعِ.

أُمَمًا يُذِلُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَخْسِفُ بِهَا الْأَرْضَ، وَأُمَمًا يُغْرِقُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْمَاءِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَأُمَمًا يُمَزِّقُهَا رَبُّكَ بِالصَّيْحَةِ حَتَّى تَتَقَطَّعَ فِي الصُّدُورِ نِيَاطُ الْقُلُوبِ.

كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ.

وَإِلَّا فَحَدِّثْنِي بِرَبِّكَ: مَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ؛ مِنْ دَارِ السُّرُورِ وَالْهَنَاءِ وَالْحُبُورِ وَالرَّخَاءِ إِلَى دَارِ النَّصَبِ وَالْعَنَاءِ وَالذُّلِّ وَالشَّقَاءِ؟!!

مَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَبْدَلَهُمَا حَالًا مِنْ بَعْدِ حَالٍ؟!!

إِنَّمَا أَخْرَجَتْهُمَا الْمَعْصِيَةُ.

وَمَا الَّذِي أَبْلَسَ إِبْلِيسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَآيَسَهُ مِنْ ظِلِّ رَحْمَةِ رَبِّهِ -وَإِنَّهَا لَتَسَعُ وَتَسَعُ-، مَا الَّذِي آيَسَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَأَبْلَسَهُ، وَأَبْدَلَ ظَاهِرَهُ أَقْبَحَ مَنْظَرٍ وَأَشْأَمَهُ -وَبَاطِنُهُ أَقْبَحُ مِنْ ظَاهِرِهِ-، وَأَبْدَلَهُ مِنْ هَزَجِ التَّسْبِيحِ وَزَجَلِ التَّهْلِيلِ رِعْدَةَ النَّغَمَاتِ الْفَاسِقَاتِ وَالْكُفْرَانِ وَالْعِصْيَانِ؟!!

مَا الَّذِي أَبْدَلَ إِبْلِيسَ بِمَا كَانَ فِيهِ مِمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ؟!!

إِنَّمَا صَنَعَ بِهِ ذَلِكَ شُؤْمُ الْمَعْصِيَةِ.

مَا الَّذِي أَغْرَقَ الْأَرْضَ وَأَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ؛ حَتَّى عَلَتِ الْمِيَاهُ فِي الْأَرْضِ فَغَطَّتْ رُؤُوسَ الْجِبَالِ؟!!

كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ.

لِمَاذَا أَهْلَكَتِ الرِّيحُ قَوْمَ عَادٍ فَصَيَّرَتْهُمْ -كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ- كَـ{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]، {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]؟!!

يَصِفُهَا رَبُّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَنَّهَا {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، ثُمَّ يُقَرِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ: {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8]، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 50-51].

وَأَمَّا ثَمُودُ؛ فَبِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الصَّيْحَةَ؛ فَتَمَزَّقَتِ الْقُلُوبُ فِي الْأَجْوَافِ، فَصَارُوا كَالرِّمَمِ الْبَالِيَاتِ.

مَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ إِلَى مُسْتَوًى تَسْمَعُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، ثُمَّ قَلَبَهَا، وَأَمْطَرَهُمُ الْحِجَارَةَ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ خَسَفَ بِهِمُ الْأَرْضَ؛ فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ فِي الْأَرْضِ قَطُّ؟!!

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].

مَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَسَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ بِقَتْلِ الذُّرِّيَّةِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ، وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ، وَالْإِذْلَالِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ؟!!

كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.

أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي ((الزُّهْدِ)) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ-، قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قُبْرُسَ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَجَلَسَ أَبُو الدَّرْدَاءِ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ نَاحِيَةً يَبْكِي.

قَالَ: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! تَبْكِي فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْإسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَنَصَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ جُنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ؟!!

فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ! مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، إِذْ عَصَوْا أَمْرَ اللهِ؛ فَصَيَّرَهُمُ اللهُ إِلَى مَا تَرَى».

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-: أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلَهُ: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، فَقَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ», فَلَمَّا نَزَلَتْ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]؛ قَالَ: «هَاتَانِ أَهْوَنُ، -أَوْ أَيْسَرُ-».

وَلَوْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا لَرَفَعَهَا؛ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَسْأَلْ رَبَّهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَنَعَهُ مِنْهُ سَلَفًا ﷺ.

فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِيمَا يَرْوِيهِ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)): «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ ﷺ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ -أَيْ: بِالْمَجَاعَةِ- فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا».

وَفِي حَدِيثٍ: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَّا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ -أَيْ: بِمَجَاعَةٍ عَامَّةٍ-، وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا؛ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا».

فَأَبَى ربُّكَ إِلَّا أنْ يَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْبِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ ﷺ.

كَمَا يَفْعَلُ الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ فِي النَّظَرِ إِلَى مَرِيضِهِ الْمَطْرُوحِ بَيْنَ يَدَيْهِ.. الْمُنْطَرِحِ تَحْتَ عَيْنَيْهِ بِنَفَاذِ بَصَرٍ وَنُفُوذِ بَصِيرَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُشَخِّصَ الدَّاءَ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَسْتَطِيعَ تَبَعًا أَنْ يَصِفَ الدَّوَاءَ صَحِيحًا.

فَلْنَنْظُرْ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ؛ عَسَى أنْ يَدُلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ هِيَ عَامِلَةٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهَا أَنْجَحَ وَأفلَحَ، وَمَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَى دَرْبِهَا، وَتَنَكَّبَهَا مُسْتَدْبِرًا إِيَّاهَا؛ تَرَدَّى فِي نَتَائِجِهَا لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّكَ قَدَرًا مَقْدُورًا.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي وَصْفِ مَصَارِعِ الْغَابِرِينَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

إنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا لِيَعْبُدُوهُ، وَأَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -فِي الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِيَضْرِبَهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- عَلَى قَرْيَةٍ لَا يُهِمُّ بِحَالٍ أَنْ نَعْرِفَ اسْمَهَا وَلَا رَسْمَهَا، وَإِنَّمَا فَحْوَى الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا دَلَالَةُ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ سَارِيَةٌ فِي كَوْنِ اللهِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.

{قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، وَالْعِزَّةِ وَالِاطْمِئْنَانِ، ثُمَّ يَأْتِيهَا الرِّزْقُ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَالَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66].

انْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}؛ وَلَكِنَّهُمْ وَا أسَفَاهُ!!- أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَخَذَهُمْ رَبُّكَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا!!

قَرْيَةٌ مَضْرُوبَةٌ مَثَلًا: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ}، وَانْظُرْ لَا مُفَسِّرًا وَلَا مُؤَوِّلًا، وَإِنَّمَا مُصْغِيًا بِسَمْعِ الْقَلْبِ لِجَرْسِ كَلِمَةِ (الرَّغَدِ): {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَضْرِبُ لَنَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ تِلْوَ الْمَثَلِ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:68].

لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا رَبَّ النَّاسِ عَلَى يَدِ خَيْرِ النَّاسِ ﷺ؛ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَأَتَاهُمُ الرِّزْقُ {رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ}.

إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَبْدَلُوا النِّعْمَةَ كُفْرَانًا، وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالشُّكْرَانِ؛ أَذَاقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ السُّخْطَ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ يَأْتِي عَنْ سَبِيلِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

وَانْظُرْ عَنِ النَّبَأِ الْمَضْرُوبِ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأُمَّةٍ ظَاهِرَةٍ قَاهِرَةٍ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].

{كَانَ لِسَبَإٍ}، وَسَبَأٌ هَذَا أَبُو عَشِيرَةٍ مِنَ الْعَشَائِرِ الْعَظِيمَةِ, انْتَشَرَتْ فِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا بَعْدُ، مِنْهُمُ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي يَثْرِبَ -فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ-، فَهُوَ أَبُوهُمُ الْأَعْلَى، وَمِنْهُمْ: غَسَّانُ فِي الشَّامِ، وَمِنْهُمْ: خُزَاعَةُ فِي تِهَامَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ جُذَامَ وَعَامِلَةَ وَلَخْمٍ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.

كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي جَنُوبَيِ الْيَمَنِ، يَضْرِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا بِهِمُ الْمَثَلَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ -كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- جَعَلَهُمْ أَحَادِيثَ؛ لِكَيْ يَتَنَاقَلَ النَّاسُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ جِيلًا مِنْ بَعْدِ جِيلٍ؛ لِيَرَوُا الْعِبْرَةَ، وَلِيَتَلَمَّسُوا الْمَوْعِظَةَ, وَأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَطَاعُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ كَفَاهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَتَاهُمُ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَإِذَا كَفَرُوا نِعْمَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَذَاقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -بِمَا قَدَّمَتِ الْأَيْدِي- ذُلًّا، وَخَسْفًا، وَمَسْخًا، وَعَذَابًا، وَتَقْتِيرًا، وَقُوتًا لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْكَدِّ وَالْكَدْحِ وَالنَّصَبِ، وَرُبَّمَا لَا يَأْتِي بِحَالٍ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} فِي جَنُوبَيِ الْيَمَنِ {آيَةٌ}؛ أَيْ: عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ وَادٍ مُتَّسِعٌ، وَعَلَى فَمِ الْوَادِي جَبَلَانِ عَظِيمَانِ، وَكَانَ السَّيْلُ يَنْزِلُ غَزِيرًا مِدْرَارًا، فَيَسِيرُ مِنْ بَيْنِ السَّدَّيْنِ، حَتَّى إِذَا مَا أَتَى إِلَى الْوَادِي تَشَتَّتَ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ شَيْئًا، فَهُدُوا -بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِلَى إِقَامَةِ سَدٍّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ -هُوَ: سَدُّ مَأْرِبَ-, كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ النِّعْمَةَ الظَّاهِرَةَ: {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} عَلَى هَذَا الْجَبَلِ وَذَاكَ؛ عَلَى سَفْحِهِ، وَحَوَالَيْهِ، وَعَلَى قِمَّتِهِ، وَفِي بَطْنِ الْوَادِي.

وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي وَصْفِ النِّعْمَةِ: {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} مُوَحِّدِينَ لِلَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ}.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} كَلَامٌ طَوِيلٌ لَا يَفْرُغُ بِحَالٍ.

فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَلْدَةَ كَانَ مَنَاخُهَا مُعْتَدِلًا جِدًّا؛ حَتَّى إِنَّهُ لَا يُرَى فِيهَا ذُبَابٌ، وَلَا بَعُوضٌ، وَلَا بَرَاغِيثُ، وَلَا هَوَامٌّ فِي الْأَرْضِ بِحَالٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَنَاخَ أَعْدَلُ مَا يَكُونُ، وَأَجْلَى مَا يَكُونُ، وَأَصْفَى مَا يَكُونُ، كَأَنَّمَا أَتَتْ ذَلِكَ الْمَكَانَ - بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - نَفْحَةٌ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ بِنَسِيمٍ وَهَوَاءٍ، وَخُضْرَةٍ وَاخْضِرَارٍ، ثُمَّ بِخُلُوٍّ مِنْ كُلِّ مَا يُنَغِّصُ.

وَشَيْءٌ آخَرُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَأْخُذُ مِكْتَلًا أَوْ زِنْبِيلًا عَلَى رَأْسِهَا مِمَّا تُجْنَى فِيهِ الثِّمَارُ، ثُمَّ تَسِيرُ بِهَذَا الْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا تَحْتَ الْأَشْجَارِ، لَا تُكَلِّفُ نَفْسَهَا مَؤُونَةَ قَطْفٍ وَلَا بَحْثٍ عَنْ قِطَافٍ، وَإِنَّمَا تَسِيرُ تَحْتَ الْأَشْجَارِ فَتَتَسَاقَطُ الْأَثْمَارُ, فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ؛ وَجَدَتْ مِكْتَلَهَا قَدْ أَرْبَى وَزَادَ عَلَى مِلْئِهِ بِمَا لَا يُوصَفُ وَلَا يُقَدَّرُ؛ بِعَطَاءٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}، وَالْعَبْدُ مَهْمَا وَصَلَ وَمَهْمَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِالذَّنْبِ، فَيَأْتِي قَوْلُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَرَبٌّ غَفُورٌ}، غَفُورٌ لَكُمْ إِذَا مَا وَقَعْتُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ بِغَلَبَةِ نَفْسٍ، وَأُخْذَةِ شُبْهَةٍ وَشَهْوَةٍ، ثُمَّ عُدْتُمْ وَرَجَعْتُمْ وَنَدِمْتُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ، عِنْدَ ذَلِكَ تَجِدُونَ رَبَّكُمْ غَفُورًا رَحِيمًا، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

فَمَاذَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ؟!! {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:16-17].

{فَأَعْرَضُوا}؛ فَانْظُرْ مَاذَا صَنَعَ رَبُّكَ بِهِمْ؛ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْجُرُذَ، سَلَّطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الْفِئْرَانَ، فَأَخَذَتِ الْفِئْرَانُ تَنْخُرُ فِي أَصْلِ هَذَا السَّدِّ التُّرَابِيِّ، ثُمَّ جَاءَ السَّيْلُ -{سَيْلَ الْعَرِمِ}- بِمَا يَحْمِلُ مِنْ حِجَارَةٍ, وَبِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَانْدِفَاعٍ، فَأَطَاحَ وَأَذْهَبَ بَقِيَّةَ السَّدِّ مِمَّا لَمْ تَقْوَ عَلَيْهِ الْفِئْرَانُ، فَأَغْرَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ وَادِيَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ انْحَسَرَ، ثُمَّ إِنَّ مَنْسُوبَهُ انْحَدَرَ فَلَمْ يَبْلُغْ قِمَّةَ جَبَلٍ وَلَا سَفْحَهُ، وَعَادَتِ الْجَنَّتَانِ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي التَّبْدِيلِ.

حَتَّى مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ -رَبُّنَا سُبْحَانَهُ- فِي هَذَا التَّبْدِيلِ مِنْ شَيْءٍ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ؛ عِنْدَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مَا وَقَعَ قَلَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ}، شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ ثَمَرٍ، وَالْأَثْلُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الطُّرَفَاءُ، وَأَمَّا السِّدْرُ فَهُوَ شَجَرُ النَّبْقِ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَعْدَلُ وَأَحْلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ عِنْدَ التَّبْدِيلِ.

وَانْظُرْ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي غُيِّرَتْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَشْكُرُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يُحْسِنُوا أَدَاءَ عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.

{وَشَيْءٍ}، وَهَكَذَا بِهَذَا التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ التَّقْلِيلَ وَالتَّحْقِيرَ، {وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ}، وَهَذَا التَّبْعِيضُ الَّذِي يَأْتِي قَبْلَ قَوْلِهِ: {سِدْرٍ}، {مِّنْ سِدْرٍ}، {وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ}، ثُمَّ أَتَى بِالتَّقْلِيلِ؛ فَيَا لَلَّهِ مِنْ هَذَا التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ.

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

إِنَّ أَقْوَامًا يَغْتَرُّونَ بِالنِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْحَالَ يَدُومُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا وَهْمٌ وَكَذِبٌ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحَابِي أَحَدًا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَمُتُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ بِنَسَبٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا صِهْرٍ -تَعَالَى وَتَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ-.

الْكُلُّ عَبِيدٌ عَلَى قَانُونِ الْعُبُودِيَّةِ يَسِيرُونَ، فَإِنْ أَتَوْا بِقَانُونِهَا وَلَوَازِمِهَا وَمَلْزُومَاتِهَا؛ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْفَضْلَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَمْلَى لَهُمْ ظَاهِرًا؛ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُمْ لَمْ يُفْلِتْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِـمِ؛ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَـمْ يُفْلِتْهُ»، كَمَا صَحَّ عَنْهُ ﷺ.

بَلْ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَـهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183]؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَانُونِهِ الْكَوْنِيِّ، وَمِنْ سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْعَامِلَةِ فِي دُنْيَا النَّاسِ: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْعَبْدَ يُعْطَى النِّعْمَةَ فَلَا يَزِيدُ عَلَى النِّعْمَةِ إِلَّا مَعْصِيَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ أَخْذَهُ آتٍ وَشِيكٌ لَا مَحَالَةَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَجْرَى عَلَى فَمِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ حَدِيثًا مِنْ أَحَادِيثِهِ الْعَظِيمَةِ -وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ عَظِيمَةٌ ﷺ- يُشَخِّصُ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ثَوْبَانُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي ((السُّنَنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى قَصْعَتِهَا-»، هَلُمُّوا هَلُمُّوا إِلَى هَذَا الطَّعَامِ.

فَالْأُمَمُ كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ آيَةٍ وَعَلَامَةٍ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ لَكَفَى وَشَفَى، وَقَادَ قُلُوبَ أَقْوَامٍ بِأَزِمَّتِهَا إِلَى سَوَاءِ الْإِيمَانِ, وَإِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ مُنْذُ عُقُودٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ الْكَرِيمُ مُتَحَدِّرًا فِي ظِلَالٍ وَنَدًى يَطْرُقُ سَمْعَ الزَّمَانِ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ-: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -أَوْ: عَلَى قَصْعَتِهَا-».

أَكَلَةٌ وَضَعُوا قَصْعَةً بِطَعَامٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا: هَلُمَّ هَلُمَّ إِلَى الطَّعَامِ الْهَنِيءِ.. وَالنَّاسُ يَأْتُونَ إِلَى هَذَا الْأَكْلِ الَّذِي يُسَاغُ أَوْ لَا يُسَاغُ.

وَالرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي لَنَا بِالْمَثَلِ الْمَحْسُوسِ: الْأُمَمُ سَتَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ -يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ!- كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا؛ فَتَصِيرُونَ فَرِيسَةً -كَمَا قالَ النَّبِيُّ ﷺ- لِأَكَلَةٍ يَتَدَاعَوْنَ، يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَكْفِي أَنْ يُلِمَّ أَحَدُهُمْ بِمَائِدَتِهِ فَيَأْكُلَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ مُكْتَفِيًا بِمَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الزَّادِ؛ سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَمْ كَانَ حَرَامًا، وَإِنَّمَا يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا: هَلُمَّ هَلُمَّ إِلَى هَذَا الطَّعَامِ!

فَتُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَرِيسَةً، كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَقَالَ قَائِلٌ: «أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

فَقَالَ: ((لَا؛ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ».

وَالْغُثَاءُ: هُوَ مَا يَحْمِلُهُ الْمَاءُ إِذَا مَا جَرَى مِمَّا يَجْرِفُهُ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ الْمُتَطَايِرِ، وَمِنْ قَشِّ الْأَرْضِ وَحَصَاهَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْبَحَ هَكَذَا طَافِيًا مُتَأَرْجِحًا مَعَ نَغَمَاتِ مَاءٍ مُنْسَابٍ، فَهَذَا هُوَ الْغُثَاءُ؛ بَلْ إِنَّ الْغُثَاءَ يَحْمِلُ فِيمَا يَحْمِلُ جِيَفَ حَيَوَانَاتٍ نَفَقَتْ، وَرِمَمَ وَجُثَثَ قِطَطٍ وَكِلَابٍ أُزْهِقَتْ أَرْوَاحُهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُحْمَلُ غُثَاءً يَحْمِلُهُ السَّيْلُ.

«أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ مِنْ قُلُوبِ أَعْدَائِكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ)).

قِيلَ: ((وَمَا الْوَهَنُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا»، أَوْ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».

وَالْحَدِيثُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُطَبَّقٌ عَلَى الْأُمَّةِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ -فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ-.

يَقُولُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ»، وَكَأَنَّهُ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِكُلِّ مُعَامَلَةٍ رِبَوِيَّةٍ فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ فِي أَصْنَافِ الْمُعَامَلَاتِ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَأَخْذَتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».

وَصَدَقَ النَّبِيُّ ﷺ فِي كُلِّ مَا قَالَ، الْأَمْرُ كَمَا وَصَفَ الْمُخْتَارُ ﷺ، وَمَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى رَفْعِ الذُّلِّ عَنِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْقَانُونِ الْعَظِيمِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}.

انْظُرْ إِلَى الْمُؤَكِّدَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ بِالْقَسَمِ الْمُضْمَرِ وَالْإِتْيَانِ بِـ(وَاوِهِ): {وَلَيَنصُرَنَّ}.

ثُمَّ بِإِدْخَالِ اللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ، ثُمَّ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُثَقَّلَةِ الَّتِي تَأْتِي لِتَوْكِيدِ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدِهِ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}.

ثمَّ انْظُرْ إِلَى التَّوْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ فِي قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}؛ فَهَذَا مُؤَكِّدٌ مَعْنَوِيٌّ: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، مَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يَنْصُرُهُ لَا مَحَالَةَ.

ثُمَّ انْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}.

لَمْ يَقُلْ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا مَسَارِحَ الْفَنِّ, وَدُورَ الْبَطَالَةِ, وَمَشَارِبَ الْخُمُورِ!!

لَمْ يَقُلْ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ عَاثُوا فِيهَا فَسَادًا!!

وَإِنَّمَا شَخَّصَ رَبُّكَ وَوَصَفَ مَعَ التَّشْخِيصِ دَوَاءَ الدَّاءِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

وَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّذْيِيلِ فِي قَوْلِ رَبِّك -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ لِأنَّهُ رُبَّمَا قَالَ إِنْسَانٌ: كَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ضَعْفٍ وَمِنْ قِلَّةٍ وَمِنْ فَقْرِ ذَاتِ يَدٍ أَنْ نُقَاوِمَ أُمَمَ الْأَرْضِ مِمَّنْ أُوتُوا بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ؟

فَتْحًا عَلَيْهِمْ، لَا فَتْحًا بِهِمْ، وَلَا فَتْحًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا فَتْحًا عَلَيْهِمْ؛ حَتَّى إِذَا مَا اسْتَتَمَّ لَهُمُ الْأَمْرُ ظَاهِرًا أَخَذَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا!!

رُبَّمَا أَتَى هَذَا الْخَاطِرُ فِي خَاطِرِ إِنْسَانٍ يَسْبَحُ فِيهِ وَيَجُولُ، فَيَأْتِي التَّذْيِيلُ فِي الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر : 31].

فَمَا عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَإِلَّا فَالْجَمِيعُ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ لِيُغْرِقَ أَهْلَهَا -رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا-.

تُوبُوا لِلَّهِ، وَأَحْدِثُوا لِلَّهِ تَوْبَةً؛ وَإِلَّا فَإِنَّ الْكُلَّ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، وَسَيَغْرِقُ الْجَمْعُ كُلُّهُ لَا مَحَالَةَ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَمْعَ بِرَحْمَتِهِ؛ فَاللَّهُمَّ تَدَارَكْنَا جَمِيعًا بِرَحْمَتِكَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

((الِاعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ بِالتَّارِيخِ وَحَوَادِثِهِ))

إِنَّ مِنْ مَجَالَاتِ الدَّعْوَةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَأُصُولِهَا: دَعْوَةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَأَحْدَاثِهِ وَأَيَّامِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي الزَّمَانِ الْمُنْقَضِي، وَالتَّبَصُّرِ بِعَوَاقِبِهِمْ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ التَّارِيخِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْقَصَصِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ وَالْقَبَائِلِ، وَبَيَانَ أَعْمَالِهِمْ وَحَضَارَاتِهِمْ، وَبَيَانَ أَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ لِلْوَحْيِ وَالرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَمَعْرِفَةَ عَوَاقِبِهِمْ فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ وَالدُّرُوسِ وَالْعِظَاتِ مَا يَجْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا وَإِصْلَاحًا لِلْمُسْتَقْبَلِ الْقَادِمِ مِنْ بَعِيدٍ -بِإذْنِ اللهِ-.

قَالَ تَعَالَى: {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].

(({وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أَيْ: بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَبِأَيَّامِهِ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ، وَوَقَائِعِهِ بِالْكَافِرِينَ؛ لِيَشْكُرُوا نِعَمَهُ، وَلِيَحْذَرُوا عِقَابَهُ؛ إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيْ: {فِي أَيَّامِ اللَّهِ} عَلَى الْعِبَادِ لآيَاتٍ {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ: صَبَّارٍ فِي الضَّرَّاءِ وَالْعُسْرِ وَالضِّيقِ، شَكُورٍ عَلَى السَّرَّاءِ وَالنِّعْمَةِ)).

وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].

((مِنَ الْحِكَمِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ يُعْطِي اللَّهُ مِنْهَا الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، فَيُدَاوِلُ اللَّهُ الْأَيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ، يَوْمٌ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَيَوْمٌ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى; لِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ فَانِيَةٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا)).

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ».

فِي التَّارِيخِ عِبْرَةٌ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ..

((الِاعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِمَنِ اتَّقَى وَصَبَرَ))

إِنَّ مِنْ سُنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّتِي لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، الَّتِي تَدْعُو لِلِاعْتِبَارِ وَالتَّذَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ: أَنَّ الْخَاتِمَةَ الْحَسَنَةَ الْجَمِيلَةَ وَالنَّصْرَ وَالْعِزَّةَ دَوْمًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} [طه: 132].

((وَالْعَاقِبَةُ الصَّالِحَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَهْلِ التَّقْوَى)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].

(({إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} أَيْ : يَتَّقِ فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيَصْبِرْ عَلَى الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ، وَعَلَى الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا؛ {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)).

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

(({وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ} أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ {أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَيْ: عُلَمَاءَ بِالشَّرْعِ وَطُرُقِ الْهِدَايَةِ، مُهْتَدِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، يَهْدُونَ غَيْرَهُمْ بِذَلِكَ الْهُدَى؛ فَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ هُدًى، وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَئِمَّةٌ يَهْدُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَتْبَاعٌ مُهْتَدُونَ بِهِمْ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ بَعْدَ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَهِيَ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ، وَإِنَّمَا نَالُوا هَذِهِ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ لَمَّا صَبَرُوا عَلَى التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالْأَذَى فِي سَبِيلِهِ، وَكَفُّوا نُفُوسَهُمْ عَنْ جِمَاحِهَا فِي الْمَعَاصِي، وَاسْتِرْسَالِهَا فِي الشَّهَوَاتِ.

{وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أَيْ: وَصَلُوا فِي الْإِيمَانِ بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَهُوَ الْعِلْمُ التَّامُّ الْمُوجِبُ لِلْعَمَلِ، وَإِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ لِأَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا تَعَلُّمًا صَحِيحًا، وَأَخَذُوا الْمَسَائِلَ عَنْ أَدِلَّتِهَا الْمُفِيدَةِ لِلْيَقِينِ، فَمَا زَالُوا يَتَعَلَّمُونَ الْمَسَائِلَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهَا بِكَثْرَةِ الدَّلَائِلِ حَتَّى وَصَلُوا لِذَاكَ؛ فَبِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51-52].

((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنُؤَيِّدُهُمْ عَلَى مَنْ آذَاهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ تَشْهَدُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، فَتَشْهَدُ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَتهُمْ.

يَوْمَ الْحِسَابِ لَا يَنْتَفِعُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ تَعَدَّوْا حُدُودَ اللهِ بِمَا يُقَدِّمُونَهُ مِنْ عُذْرٍ لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللهِ، وَلَهُمُ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَهُمُ الدَّارُ السَّيِّئَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ النَّارُ)).

مَتَى مَا حَقَّقَتِ الْأُمَّةُ رُكْنَيِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَأَتَتْ بِأَصْلَيْهِ -أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-؛ مَكَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهَا، {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا، وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا؛ فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا، وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا؛ بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ؛ لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ، وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ؛ بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.

فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».

حَتَّى وَقَفَ وَاقِفُهُمْ مِنْ مُجَاهِدِيهِمْ عَلَى فَرَسِهِ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ يُخَاطِبُ أَمْوَاجَهُ، وَيُنَاجِي مَا هُنَالِكَ مِنْ مِيَاهِهِ، وَيَقُولُ: أَمَا وَاللهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ وَرَاءَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ قَوْمًا لَا يَعْبُدُونَ اللهَ لَخُضْتُكَ عَلَى مَتْنِ فَرَسِي هَذَا، وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

«هَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ».

مَنِ الَّذِي يُنْصَرُ؟

صَاحِبُ الْإِيمَانِ، صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، مَنْ أَقَامَ الشَّرْعَ عَلَى نَفْسِهِ كَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، رُبُّوا عَلَى التَّوْحِيدِ، احْتَرَقَتْ بِدَايَاتُهُمْ فَأَنَارَتْ نِهَايَاتُهُمْ، وَكَانُوا بَيْنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مُسْتَقِيمِينَ مُوَحِّدِينَ مُتَسَنِّنِينَ، وَكَذَا كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْوَعْدُ قَائِمٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

«لَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَيُدَالُ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ».

وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ -التَّمْكِينِ وَالسَّلْطَنَةِ التَّامَّةِ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَفَسَقُوا، فَلَمْ يُصْلِحُوا الصَّالِحَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ الْإِيمَانَ فِي حَالِ عِزِّهِ وَقَهْرِهِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ وَخُبْثِ طَوِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَ لَهُ لِتَرْكِ الدِّينِ إِلَّا ذَلِكَ.. إِلَّا خُبْثُ النِّيَّةِ وَسُوءُ الطَّوِيَّةِ!!

تَأَمَّلْ كَيْفَ مَكَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّينَ مِمَّنْ أَعْلَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَأْنَهُمْ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 54-57].

هَذَا التَّمْكِينُ الَّذِي مَكَّنَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِيُوسُفَ كَانَ لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّة لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ حَيْثُ قَالَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37-40].

دَعْوَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُمَكِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ.  

((الِاعْتِبَارُ بِالْمَوْتِ وَأَحْوَالِ الدُّنْيَا))

عِبَادَ اللهِ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ دَائِبٌ فِي خَطْفِ الْأَحِبَّةِ؛ فِي أَخْذِ الْخُلَصَاءِ وَالْأَوِدَّةِ, وَقَدْ أَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَشْعَثَ يُعَزِّيهِ عَنِ ابْنِهِ فَقَالَ: ((إِنْ تَحْزَنْ فَقَدِ اسْتَحْقَقَتْ ذَلِكَ مِنْكَ الرَّحِمُ, وَإِنْ تَصْبِرْ فَإِنَّ فِي اللهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ, مَعَ إِنَّكَ إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ, وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ آثِمٌ مَأْزُورٌ)).

وَعَزَّى ابْنُ السَّمَّاكِ رَجُلًا فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ؛ فَبِهِ يَعْمَلُ مَنِ احْتَسَبَ, وَإِلَيْهِ يَصِيرُ مَنْ جَزِعَ, وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَتْ مُصِيبَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا أَعْظَمُ مِنْهَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ فِيهَا, أَوْ مَعْصِيَتِهِ بِهَا)).

وَعَزَّى صَالِحٌ الْمُرِّيُّ رَجُلًا بِابْنِهِ فَقَالَ لَهُ: ((إِنْ كَانَتْ مُصِيبَتُكَ لَمْ تُحْدِثْ لَكَ مَوْعِظَةً؛ فَمُصِيبَتُكَ بِنَفْسِكَ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَتِكَ بِابْنِكَ, وَاعْلَمْ أَنَّ التَّهْنِئَةَ عَلَى آجِلِ الثَّوَابِ أَوْلَى مِنَ التَّعْزِيَةِ عَلَى عَاجِلِ الْمُصِيبَةِ)).

وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: ((عَزَّى أَبِي رَجُلًا فَقَالَ: إِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى اللهِ وَعْدَهُ مَنْ صَبَرَ لَحِقِّهِ، فَلَا تَجْمَعْ إِلَى مَا فُجِعْتَ بِهِ الْفَجِيعَةَ بِالْأَجْرِ؛ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمُصِيبَتَيْنِ عَلَيْكَ، وَلِكُلِّ اجْتِمَاعٍ فُرْقَةٌ إِلَى دَارِ الْحُلُولِ)).

وَعَزَّى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بُنَيٍّ لَهُ صَغِيرٍ، فَقَالَ: ((عَوَّضَكَ اللهُ مِنْهُ مَا عَوَّضَهُ اللهُ مِنْكَ)).

وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا عَزَّى قَوْمًا قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ؛ فَإِنَّ بِهِ يَأْخُذُ الْحَازِمُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْجَازِعُ)).

وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ فِي الْمُصِيبَةِ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي آجَرَنَا عَلَى مَا لَوْ كَلَّفَنَا غَيْرَهُ لَعَجَزْنَا عَنْهُ)).

إِنَّ أَحَقَّ مَنْ تَعَزَّى، وَأَوْلَي مَنْ تَأَسَّى وَسَلَّمَ لِأَمْرِ اللهِ، وَقَبِلَ تَأْدِيبَهُ فِي الصَّبْرِ عَلَى نَكَبَاتِ الدُّنْيَا, وَتَجَرُّعِ غُصَصِ الْبَلْوَى؛ مَنْ تَنَجَّزَ مِنَ اللهِ وَعْدَهُ، وَفَهِمَ عَنْ كِتَابِهِ أَمْرَهُ، وَأَخْلَصَ لَهُ نَفْسَهُ، وَاعْتَرَفَ لَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي كِتَابِ اللهِ سَلْوَةٌ مِنْ فَقْدِ كُلِّ حَبِيبٍ؛ وَإِنْ لَمْ تَطِبِ النَّفْسُ عَنْهُ، وَأُنْسٌ مِنْ كُلِّ فَقِيدٍ؛ وَإِنْ عَظُمَتِ اللَّوْعَةُ بِهِ؛ إِذْ يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].

وَحَيْثُ يَقُولُ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156-157].

وَالْمَوْتُ سَبِيلُ الْمَاضِينَ وَالْغَابِرِينَ، وَمَوْرِدُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَفِي أَنْبِيَاءِ اللهِ وَسَالِفِ أَوْلِيَائِهِ أَفْضَلُ الْعِبْرَةِ، وَأَحْسَنُ الْأُسْوَةِ؛ فَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ أَخَذَ مِنْ فَجَائِعِ الدُّنْيَا بِأَجْزَلِ الْعَطَاءِ، وَمِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا بِاحْتِسَابِ الْأَجْرِ فِيهَا بِأَوْفَرِ الْأَنْصِبَاءِ؟!!

فُجِعَ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ ذُخْرَ الْإِيمَانِ، وَقُرَّةَ عَيْنِ الْإِسْلَامِ، وَعَقِبَ الطَّهَارَةِ، وَسَلِيلَ الْوَحْيِ، وَنَتِيجَ الرَّحْمَةِ، وَحَضِينَ الْمَلَائِكَةِ، وَبَقِيَّةَ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، فعَمَّتِ الثَّقَلَيْنِ مُصِيبَتُهُ، وَخَصَّتِ الْمَلَائِكَةَ رَزِيَّتُهُ, وَرَضِيَ ﷺ مِنْ فِرَاقِهِ بِثَوَابِ اللهِ بَدَلًا، وَمِنْ فِقْدَانِهِ عِوَضًا؛ فَشَكَرَ قَضَاهُ, وَاتَّبَعَ رِضَاهُ، فَقَالَ: ((يَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَتَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)).

وَإِذَا تَأَمَّلَ ذُو النَّظَرِ مَا هُوَ مُشْفٍ عَلَيْهِ مِنْ غِيَرِ الدُّنْيَا، وَانْتَصَحَ نَفْسَهُ وَفِكْرَهُ فِي غِيَرِهَا بَتَنَقُّلِ الْأَحْوَالِ، وَتَقَارُبِ الْآجَالِ، وَانْقِطَاعِ يَسِيرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ ذَلَّتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ، وَهَانَتِ الْمَصَائِبُ عَلَيْهِ، وَتَسَهَّلَتِ الْفَجَائِعُ لَدَيْهِ، فَأَخَذَ لِلْأَمْرِ أُهْبَتَهُ، وَأَعَدَّ لِلْمَوْتِ عُدَّتَهُ، وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا بِحُسْنِ رَوِيَّةٍ، وَلَاحَظَهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ؛ كَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ وَشْكِ زَوَالِهَا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اذْكُرُوا الْمَوْتَ؛ فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصُ الشَّهَوَاتِ)).

وَاعْلَمْ أَنَّ خَطَرَ الْمَوْتِ عَظِيمٌ، وَإِنَّمَا غَفَلَ النَّاسُ عَنْهُ لِقِلَّةِ فِكْرِهِمْ وَذِكْرِهِمْ لَهُ، وَمَنْ يَذْكُرُهُ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَذْكُرُهُ بِقَلْبٍ غَافِلٍ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْجَعُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفْرِغَ الْعَبْدُ قَلْبَهُ لِذِكْرِ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ كَالَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى مَفَازَةٍ مُخْطَرَةٍ، أَوْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَفَكَّرُ إِلَّا فِي ذَلِكَ.

وَأَنْفَعُ طَرِيقٍ فِي ذَلِكَ: ذِكْرُ أَشْكَالِهِ وَنُظَرَائِهِ وَأَقْرَانِهِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ، فَيَذْكُرُ مَوْتَهُمْ وَمَصَارِعَهُمْ تَحْتَ الثَّرَى.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ)).

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِذَا ذُكِرَ الْمَوْتَى فَعُدَّ نَفْسَكَ كَأَحَدِهِمْ)).

وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ دُخُولَ الْمَقَابِرِ، وَمَتَى سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَلْيَتَفَكَّرْ فِي الْحَالِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَتِهِ، وَيُقْصِرُ أَمَلَهُ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَنْكِبَيَّ فَقَالَ: ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

كُنَّا عَلَى ظَهْرِهَا وَالْعَيْشُ ذُو مَهَلٍ    =      وَالدَّهْرُ يَجْمَعُنَا وَالدَّارُ وَالْوَطَنُ

فَفَرَّقَ الدَّهْرُ ذُو التَّصْرِيف أُلْفَتَنَا      =    فَالْيَوْمَ يَجْمَعُنَا فِي بَطْنِهَا الْكَفَنُ

كَذَلِكَ الدَّهْرُ لَا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ         =      تَأْتِي بِأَقْدَارِهِ الْأَيَّامُ وَالزَّمَنُ

وَاللهُ الْمَوْعِدُ, وَفِيهِ الْعِوَضُ مِنْ كُلِّ هَالِكٍ, وَفِيهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعِوَضُ مِنْ كُلِّ فَائِتٍ, وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

كُتِبَ الْمَوْتُ عَلَى الْخَلْقِ فَكَمْ       =      فَلَّ مِنْ جَيْشٍ وَأَفْنَى مِنْ دُوَل

أَيْنَ نُمْرُودُ وَكَنْعَانُ وَمَنْ             =       مَلَكَ الْأَمْرَ وَوَلَّى وَعَزَل

أَيْنَ مَنْ سَادُوا وَشَادُوا وَبَنَوْا         =      هَلَكَ الْكُلُّ وَلَمْ تُغْنِ الْقُلَل

أَيْنَ أَرْبَابُ الْحِجَى أَهْلُ النُّهَى      =     أَيْنَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْقَوْمُ الْأُوَل

سَيُعِيدُ اللهُ كُلًّا مِنْهُمُ                   =        وَسَيَجْزِي فَاعِلًا مَا قَدْ فَعَل

كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ    =   يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ

إِنَّ الْمَسَاءَةَ لِلْمَسَرَّةِ مَوْعِدٌ            =    أُخْتَانِ رَهْنٌ لِلْعَشِيَّةِ أَوْ غَدِ

فَإِذَا سَمِعْتَ بِهَالِكٍ فَتَيَقَّنَنْ       =    أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُهُ وَتَزَوَّدِ

أَقُولُ لِنَفْسِي فِي الْخَلَاءِ أَلُومُهَا     =    لَكِ الْوَيْلُ مَا هَذَا التَّجَلُّدُ وَالصَّبْرُ

أَلَمْ تَعْلَمِي أَنْ لَسْتُ مَا عِشْتُ لَاقِيًا أَخِي   =   إِذْ أَتَى مِنْ دُونِ أَوْصَالِهِ الْقَبْرُ

وَكُنْتُ أَرَى كَالْمَوْتِ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ    =    فَكَيْفَ بَبَيْنٍ كَانَ مِيعَادُهُ الْحَشْرُ

وَهَوَّنَ وَجْدِي أَنَّنِي سَوْفَ أَغْتَدِي     =   عَلَى إِثْرِهِ يَوْمًا وَإِنْ نَفَّسَ الْعُمْرُ

للهِ دَرُّ الدَّافِنِيكَ عَشِيَّةً     =     أَمَا رَاعَهُمْ مَثْوَاكَ فِي الْقَبْرِ مُفْرَدَا

مُجَاوِرَ قَوْمٍ لَا تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ     =    وَمَنْ زَارَهُمْ فِي دَارِهِمْ زَارَ هُمَّدَا

يَا عَيْنُ بَكِّي عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ    =    جُودِي بِأَرْبَعَةٍ عَلَى الْجَرَّاحِ

((الِاعْتِبَارُ بَيْنَ أُولِي النُّهَى وَالْغَافِلِينَ))

إِنَّ التَّفَكُّرَ وَالِاعْتِبَارَ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ قَصَصِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-:  {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

((وَنَقُصُّ عَلَيْكَ -أَيُّهَا النَّبِيُّ- مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكَ كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا يُقَوِّي قَلْبَكَ لِلْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ جَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ -سُورَةِ هُودٍ- وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْبَارٍ بَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، وَجَاءَكَ فِيهَا مَوْعِظَةٌ يَرْتَدِعُ بِهَا الْكَافِرُونَ، وَذِكْرَى يَتَذَكَّرُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ)).

وَقَدِ امْتَدَحَ اللهُ الْمُعْتَبِرِينَ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نِهَايَةَ قَوْمِ لُوطٍ: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 74-75].

(({فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أَيْ: قَلَبْنَا عَلَيْهِمْ مَدِينَتَهُمْ، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} تَتْبَعُ فِيهَا مَنْ شَذَّ مِنَ الْبَلَدِ مِنْهُمْ.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أَيِ: الْمُتَأَمِّلِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ الَّذِينَ لَهُمْ فِكْرٌ وَرَوِيَّةٌ وَفِرَاسَةٌ يَفْهَمُونَ بِهَا مَا أُرِيدَ بِذَلِكَ؛ مِنْ أَنَّ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ؛ خُصُوصًا هَذِهِ الْفَاحِشَةَ الْعَظِيمَةَ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيُعَاقِبُهُمْ بِأَشْنَعِ الْعُقُوبَاتِ كَمَا تَجَرَّؤُوا عَلَى أَشْنَعِ السَّيِّئَاتِ)).

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْعِبْرَةِ إِلَّا الْعُقَلَاءُ أَصْحَابُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَالرَّأْيِ السَّدِيدِ، وَالْعَقْلِ الرَّشِيدِ، مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

((فَاتَّعِظُوا يَا أَصْحَابَ الْبَصَائِرِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

((إِنَّ فِي إِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ لَعِبْرَةً لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ، أَوْ أَصْغَى السَّمْعَ وَهُوَ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ، غَيْرُ غَافِلٍ وَلَا سَاهٍ)).

وَصِنْفَانِ مِنَ النَّاسِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْعِبْرَةِ: الْمُتَكَبِّرُونَ وَالْغَافِلُونَ؛ فَأَمَّا الْمُتَكَبِّرُونَ فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِمْ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]

((سَأَصْرِفُ عَنْ فَهْمِ الْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِي وَشَرِيعَتِي وَأَحْكَامِي قُلُوبَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَتِي، وَالْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَلَا يَتَّبِعُونَ نَبِيًّا، وَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ لِتَكَبُّرِهِمْ، وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا؛ لِإِعْرَاضِهِمْ وَمُحَادَّتِهِمْ للهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَرَوْا طَرِيقَ الصَّلَاحِ لَا يَتَّخِذُوهُ طَرِيقًا، وَإِنْ يَرَوْا طَرِيقَ الضَّلَالِ أَيِ: الْكُفْرِ- يَتَّخِذُوهُ طَرِيقًا وَدِينًا؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي دَلَالَاتِهَا)).

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنِ الْغَافِلِينَ اللَّاهِينَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

((وَلَقَدْ خَلَقْنَا لِلنَّارِ -الَّتِي يُعَذِّبُ اللهُ فِيهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ- كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا، فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يَنْظُرُونَ بِهَا إِلَى آيَاتِ اللهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا آيَاتِ كِتَابِ اللهِ فَيَتَفَكَّرُوا فِيهَا، هَؤُلَاءِ كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَلَا تَفْهَمُ مَا تُبْصِرُهُ، وَلَا تَعْقِلُ بِقُلُوبِهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَتُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا؛ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْبَهَائِمَ تُبْصِرُ مَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا، وَتَتْبَعُ رَاعِيَهَا، وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَطَاعَتِهِ)).

((مِنْ ثَمَرَاتِ الِاعْتِبَارِ وَفَوَائِدِهِ))

وَأَمَّا الظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ فَهَذَا مَوْضِعٌ لَطِيفٌ.

وَلِلْفِكْرَةِ ثَمَرَتَانِ: حُصُولُ الْمَطْلُوبِ تَامًّا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ رِعَايَةً لِحَقِّهِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ حَالَ التَّفَكُّرِ كَانَ قَدْ كَلَّ بِأَعْمَالِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعَانِي، وَتَخَمَّرَتْ فِي الْقَلْبِ، وَاسْتَرَاحَ الْعَقْلُ؛ عَادَ فَتَذَكَّرَ مَا كَانَ حَصَّلَهُ وَطَالَعَهُ، فَابْتَهَجَ بِهِ وَفَرِحَ بِهِ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مَا كَانَ فَاتَهُ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَقَامِ التَّذَكُّرِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَأَخَذَ -حِينَئِذٍ- فِي الثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّفَكُّرِ.

وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا بِمِثَالٍ حِسِّيٍّ؛ فَطَالِبُ الْمَالِ مَا دَامَ جَادًّا فِي طَلَبِهِ فَهُوَ فِي كَلَالٍ وَتَعَبٍ، حَتَّى إِذَا ظَفِرَ بِالْمَالِ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الطَّلَبِ، وَقَدِمَ مِنْ سَفَرِ التِّجَارَةِ، فَطَالَعَ مَا حَصَّلَهُ وَأَبْصَرَهُ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْحَالِ مَا عَسَاهُ غَلِطَ فِيهِ فِي حَالِ اشْتِغَالِهِ بِالطَّلَبِ، فَإِذَا صَحَّ لَهُ وَبَرَدَتْ غَنِيمَتُهُ لَهُ؛ أَخَذَ فِي صَرْفِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ.

مِنْ ثَمَرَاتِ الِاعْتِبَارِ وَفَوَائِدِهِ:

كَثْرَةُ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ تُقَوِّي الْإِيمَانَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَتُوَسِّعُ مَدَارِكَ الْمُؤْمِنِ، وَتَدُلُّهُ عَلَى آيَاتِ اللهِ -تَعَالَى-.

وَتُكْسِبُ الْمُؤْمِنَ خَوْفًا مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَهَابَةً مِنْ عِقَابِهِ.

وَتَجْعَلُهُ يَعْرِفُ الدُّنْيَا أَنَّهَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ.

مِنْ ثَمَرَاتِ الِاعْتِبَارِ وَفَوَائِدِهِ: قَنَاعَةُ الْمُؤْمِنِ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ.

وَيَعِيشُ الْمُؤْمِنُ بِسَعَادَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ.

((أَهَمِّيَّةُ الِاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرُ سَبِيلُهُ الْأَعْظَمُ))

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ سَبِيلَ الِاعْتِبَارِ الْأَعْظَمَ هُوَ تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ؛ وَهَذَا الأَصْلُ الكَبِيرُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مُرَاعَاةً تَامَّةً، وَأَنْ يُتَأَمَّلَ فِي الطُّرُقِ التِي يُحَصَّلُ بِهَا -أَعْنِي بِهَذَا الأَصْلِ: تَدَبُّرَ القُرْآنِ العَظِيمِ- ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ القُرْآنَ لِيُتَدَبَّرَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَادَ مِنْهُ الفَائِدَةَ المَرْجُوَّةَ إِلَّا بِتَدَبُّرِهِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَّعَظَ بِهِ وَلَا أَنْ يُنْزَجَرَ بِهِ إِلَّا إِذَا عُلِمَتْ مَعَانِي آيَاتِهِ التِي فِيهَا المَوْعِظَةُ الحَسَنَةُ، وَفِيهَا الزَّجْرُ عَنْ مُوَاقَعَةِ السَّيِّئَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ضَمَّهُ القُرْآنُ العَظِيمُ مِنَ الكُنُوزِ وَالآيَاتِ البَيِّنَاتِ التِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِيهَا بِالنَّظَرِ المُتَدَبِّرِ المُتَأَمِّلِ المُتَأَنِّي؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ المَرْءُ أَنْ يُفِيدَ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِ الفَائِدَةَ المَرْجُوَّةَ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: آيَاتُ الِاعْتِبَارِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك