تفريغ مقطع : صفحات من حرب العاشر من رمضان

بعدما كان في سنةِ سبعٍ وستين وتسعمائةٍ وألف «1967»، وما وقعَ من احتلالِ سيناء؛ قام اليهود بوضعِ حواجزَ خطيرةٍ في طريقِ الجيشِ المصريِّ الأبيِّ، كان هناك الحاجزُ المائيُّ المتمثلُ في قناةِ السويس، والذي كان عبورُه يُعَدُّ مشكلةً أمامَ أيِّ جيشٍ في العَالَمِ، ثم كانت هناك مادة «النابالم» الذي يلتهبُ متى اتصل بالماء، وقد وضعَ اليهودُ مقاديرَ هائلةً من هذه المادة؛ لتُطلَقَ بواسطةِ أنابيبَ عند النزول إلى ماء القناة، ثم كان هناك «السَّدُّ الترابيُّ الهائل» الذي وضعهُ اليهودُ على الضِّفةِ الشرقيةِ للقناة، وأخيرًا؛ كان هناك «خطُّ بارليف» المنيعُ المزوَّدُ بأحدثِ المُعِدات، والذي كان يمتدُّ على طولِ الساحلِ الشرقيِّ للقناة.

هذه الموانعُ كلُّها مع المانعِ النفسيِّ وما أشاعوه مِن أنهم القوةُ التي لا تُقهر، وأخذوا يروِّجون لذلك حتى ثبتَ في أذهانِ وقلوبِ كثيرٍ من العرب مِن المصريين وغيرِهم-؛ في قلوبِ المسلمين وغيرِ المسلمين: أسطورةُ الجيشِ الذي لا يُقهر، وكان هذا من أعظمِ الحوادث ومن أمنعِ الموانع.

هذا الذي وقعَ كان اجتيازُهُ مستحيلًا في ظاهر الأمر، ولكنْ في «العاشرِ من رمضان سنة ثلاثٍ وتسعين وثلاثمائةٍ وألف «1393» اندفعَ الجيشُ المصري إلى سيناء، وكأنَّ كلَّ شيءٍ هناك كان على موعدٍ مع الزحفِ المصريِّ، وكأنَّ الأرضَ كانت تنتظرُ أقدامَ بَنِيها المصريين؛ لتتعطرَ بها وتُرَحِّبَ بخطواتِها، وقد نالت هذه الحرب عنايةَ المؤلفين المصريين والعربِ والأجانب؛ لأنها كانت علامةً بارزةً في تاريخِ الحروب، ولأنها غيَّرت خُططَ الحربِ في العالَمِ بعد أن استطاع الجيشُ المصري بفضلِ اللهِ تعالى- أنْ يتخطى كلَّ هذه العقبات التي مرَّت الإشارةُ إليها بنجاحٍ هائل، وأوَّلُ ما كان من ذلك: أنَّ السُّلطاتِ المصريةَ نجحت في تحقيقِ المفاجأة، وخدعت الدولة اللقيطة دولةَ اليهود- وضلَّلتها، فلم تستطع ومعها «الاستخباراتُ الأمريكية» أنْ تتأكدَ من عزمِ مِصرَ على الهجوم.

وأمَّا مادةُ النابالم؛ فقد استطاع الجيشُ المصريُّ أنْ يُبطلَ استعمالها، فقد قامت وَحْدَاتُ الصاعقة بسَدِّ أنابيبِ النابالم وتخريبِها قبلَ بدءِ الهجومِ بليلةٍ واحدة، فلمَّا حاول العدوُّ استعمالَها؛ فوجئَ بنهايتِها.

وكان اليهود يبالغون في تقديرِ خطِّ بارليف، وقد أعلنَ «موشى ديان»: «أنَّ اقتحامَ خطِّ بارليف والتغلُّبَ عليه إنما هو أَمْرٌ يتجاوزُ قُدرةَ المصريين، ويحتاجُ إلى مهندسِ الجيشين السوفيتي وقتَها- والأمريكي معًا».

وجاء يومُ «العاشرِ من رمضان» أو «يومُ الهَوْل» كما سمَّاهُ بعضُ اليهود، وبعدَ منتصفِ النهارِ بقليل؛ انطلقت أكثرُ من مِائتي طائرةٍ مصريةٍ مُزمجرة من الغربِ والشرق، فدمَّرت مراكزَ قيادةِ اليهود ومراكزَ التَّنصُّت ومواقعَ صواريخ «هوك» في عُمْقِ سيناء، فأصابت القيادةَ اليهوديةَ بشللٍ تام، وعندما تحركت الطائراتُ اليهودية مُتجهةً لمواجهةِ الزحفِ المصري؛ سَرعانَ ما تساقطت هذه الطائرات بسببِ غابةِ الصواريخِ المصريةِ المُضادةِ للطائرات، وقامت معاركُ جوية؛ قال العسكريون عنها: «إنها كانت خمسين معركة، أُسقطَ لليهود فيها تسعون طائرة، بالإضافةِ إلى آلافِ الطَّلْعاتِ الجوية التي حققت أرقامًا قياسية، وأصابت الأهداف، وقَصَفَتْ تجمعات الجيشِ اليهوديِّ وطوابيره المُدَرَّعة، مما أفقدَ العدوَّ توازنَه».

ومع الموجات المتلاحقةِ من الطائرات؛ كان هناك ألفُ مِدفعٍ تهدرُ في قصفاتٍ متلاحقة، واندفعت موجاتُ العبور من أبطالِ مِصر بواسطةِ قواربَ من المطَّاطِ وغيرها، وكان عبورُهم تحت وابلٍ من النيران، ووصل الجنودُ المصريون إلى النقاطِ الحصينة رغم كلِّ مقاومة، ومع أنَّ بعضَ النقاط كانت عنيدةً في دِفاعِها؛ فإنَّ جنودَ مصر كانوا يقتحمون بالمدافعِ الرشَّاشة والقنابلِ اليدوية هذه الحصون، وكان عرضُ الساترِ الترابيِّ في بعضِ المواقع مائتي متر.

ولم تكن الأرضُ صالحةً لنَصْبِ جسورِ العبور؛ ولكنَّ المهندسين المصريين كانوا في أعظمِ لحَظَاتِ حياتِهم، وكان «مديرُ سلاحِ المهندسين» يشرفُ بنفسهِ على مواقعِ الجسور حتى تمَّت، وقضى «نائبُ مديرِ سلاحِ المهندسين» على أحدِ جسورِ العبور، وتحركت قواتنا البحرية لتضربَ أهدافًا حيوية على شاطئ البحرِ الأبيض وعلى شاطئ البحرِ الأحمرِ على السواء، ونزلت القواتُ الخاصة وراء خطوطِ العدوِّ في عُمقِ سيناء؛ لتضربَ خطوطَ إمدادِهِ، ولتُعَطِّلَ هجماتِهِ المضادةَ وتُعرقلُها، واستمر التدفقُ من الغربِ والشرقِ في الوقتِ نفسهِ، لا يتوقفُ ولا ينقطع، وفي أربعٍ وعشرين ساعة كانت لدينا في الشرق خمسُ فرِقٍ كاملة، وذلك شيءٌ لم يحدث مِثلهُ من قبلُ في تاريخ الحروب.

ونُسِفت مواقعُ خطِّ بارليف، وأُزيلت من أماكنها إلى الأبد، وتُركت واحدةٌ منها للعِبرةِ والذكرى، ففي أولِ يوم دُمِّرَ للعدوِّ أربعةَ عشرَ موقعًا منها، وفي اليومِ الثاني دُمِّرَت تسعةُ مواقع، وهكذا تحولت المواقعُ إلى رماد، وتحول حِلمُ اليهودِ في الأمنِ المطلقِ إلى أنقاضٍ ورُكام.

وفي قلبِ سيناء دارت أخطرُ معاركَ للدباباتِ في التاريخ، وذلك خلال يومي الرابع عشر والخامس عشر من شهر أكتوبر الموافق للثامن عشر والتاسع عشر من شهر رمضان، يقول العسكريون: إنَّ الدبابات التي دُمِّرت في هذه المعارك كانت تُعدُّ بالمئات.

ويقول أحدُ قادةِ الألويةِ اليهودية «يَشْعِيَا بْن بُوَارَتْ» في كتابه «التقصير»:

«إن المصريين كانوا يركضون نحو دباباتنا دون وَجَل، وكانوا يتسلقونها ويقتلون أطقُمَها بالقنابل اليدوية والصواريخ وهُم فيها».

في غمرةِ الهزائمِ التي نزلت باليهود؛ كثيرٌ من مواقعِ العدو أعلنت استسلامها، ورفعت الراية البيضاء، وكان الصليبُ الأحمر يتدخلُ معلِنًا أنه ليس هنالك إكراهٌ على الاستسلام؛ ولكنَّ كثرةَ الضحايا وفِقدانَ الأمل جعلَ الاستسلامَ أمرًا طبعيًا، وأدرك قادةُ اليهود أنه لا أمل في الانتصار على المصريين أو ردِّهم عن سيناء، فأرسلت رئيسة وزراء إسرائيل «جولدا مائير» تطلبُ الغوثَ من الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون».

يقول العسكريون: «إنَّ استغاثةَ «جولدا مائير» أعادت إلى الأذهان إشارات الاستغاثة التي ترسلها السفنُ الموشكة على الغرق، وكانت الاستغاثةُ قصيرةً وحاسمة وهي: «أنقذونا..الزلزال».

واستجابت أمريكا استجابةً هائلةً لهذه الاستغاثة، فأسرعت بإنشاءِ جسرٍ جويٍّ إلى اليهود يحملُ الدبابات والطائراتِ وقطع الغيار، وكانت الدباباتُ تنزلُ من الطائرةِ إلى الميدانِ بأطقمِها الكاملة واستعداداتها الشاملة، وقامت وزارة الدفاع الأمريكية «البِنْتَاجُون» بتجريدِ بعضِ فِرَقِ الجيشِ الأمريكيِّ من أسلحتها لدفعها بسرعة إلى اليهود، وكذلك أصدرت تعليماتها بإمدادِ الجيشِ اليهوديِّ بالدباباتِ والصواريخ من المخزونِ الاستراتيجي لحلفِ الأطلنطي في القارةِ الأوربية، بالإضافةِ إلى الأسلحةِ والذخائر؛ انهالَ المتطوعون الأمريكيون من اليهودِ وغيرِهم؛ ليأخذوا مكانَهم بجانبِ الجيشِ اليهودي في أزمتِهِ الخانقة.

ثم وقعت الثغرة؛ قال «شارون»: «أخذ المصريون زمامَ المبادرة، واستطاعوا أنْ يُلحقوا أفدحَ الخسائرِ بالجيشِ الإسرائيلي كذا قال-، وكان القتالُ يمكن أن يتوقف في أي لحظة وموقفنا في غايةِ السوء، وهذا سيكون كارثةً كاملةً بالنسبةِ لإسرائيل وسُمعتِها، ومن أجلِ ذلك كان لابد من عمل شيء.

فألححتُ على القيادة لتوافق على تنفيذ خطتي بالعبور إلى الغرب في «الدفرسوار»، وساعدتنا الولايات المتحدة؛ فأخبرتنا أنَّ هناك فراغًا بين الجيشين الثاني والثالث المصريين، وأشارت علينا بالعبور إلى الغرب ويواصل شارون قوله-: ولكنني شعرت في الأيام الأولى لهذه العملية أنَّ إقامةَ الجسورِ إلى الغرب كان خطئًا عسكريًا، فقد كان القصفُ المصريُّ بالغَ العُنف، وفشِلنا تمامًا في حصارِ الجيشِ الثالث، وانتهزنا أقربَ فرصة لنعودَ أدراجَنا إلى الشرق».

وإزاءَ التدخلِ الأمريكي وبسبب صرخات مجلسِ الأمن؛ كان لابد من إيقاف المعركة، ولولا تدخل أمريكا لكان اليهود كلُّهم في خطر، ووقفت المعركةُ على أيِّ حال، وبدأ إحصاءُ خسائرِ إسرائيل:

يقول القادةُ الإسرائيليون: «إنَّ خسائرَنا حتى اليوم الثالثِ للحرب كانت هائلة، فقد سقطَ آلافٌ من القتلى، وجُرِحَ آلافٌ آخرون، واستسلم عددٌ كبيرٌ فأُخِذوا أسرى، وكان من بين هؤلاء «عساف ياجوري» قائد اللواء المائة والتسعين المدرعة، وقد تجاوزت الخسائرُ البشرية في ذلك اليوم الرهيب كلَّ تقدير، أمَّا عن المُعدات؛ فقد شَمِلت خمسين ومائتين من الطائرات وثمان مائة من الدبابات، وذلك حسب تقديرات معهد الدراسات الاستراتيجية بلندن».

وكذلك قالت المصادرُ الإسرائيليةُ نفسها، وقالت رئيسةُ وزراء إسرائيل: «إنَّ خسائرَ بلادها تفوقُ خسائرَ الولايات المتحدة في حروبِ الهندِ والصين التي استمرت عشرَ سنوات، وكان الآلاف من قتلى اليهود من الشُّبان الذين لم يتجاوز الواحد منهم الرابعةَ والعشرين من العُمر؛ لذلك أطلق «مناحم بيجن» على هذه الحرب «حربَ الأبناء».

 

لقد أحسن «أنور السادات» الاستعداد للمعركة، ونجح نجاحًا عظيمًا في إدارتها، وقال مُعلقًا على ذلك: «كانت ضربةُ الطيرانِ المصرية ضربةً رائعة، أعادت لقواتنا المسلحة كرامتَها التي انتُهِكت عام ستة وخمسين وعامَ سبعةٍ وستين، وكان الهجومُ بأكثرَ من مائتي طائرة، وخسارتُنا كانت ضئيلة لا تزيدُ عن اثنين بالمائة «2%»، وحققنا تسعةً وتسعين بالمائة من الأهداف «99%»، أمَّا خسارةُ العدو؛ فكانت قاتلة».

وقال «رئيسُ الأركان» آنذاك: «إنَّ تحركات استعدادنا كان يصحبُها تحركاتٌ أخرى نقومُ بها للخداعِ والتمويه؛ لنُحدِثَ ارتباكًا في تقديراتِ مَن يراقبُ التحركات، ولتقوده إلى النتيجةِ الخاطئة، وكانت أصعبُ أيامِ الخداعِ هي الأيامَ الثلاثةَ الأخيرة، فقد كانت تقتضي تحركات مُعينة،  فاحتجنا إلى دِقةٍ شديدةٍ في التقدير لإخفاءِ هدفِها، ولكنَّها أولًا وأخيرًا كانت رعايةُ الله لنا، التي مكنتنا من تحقيقِ المفاجئات بالصورةِ التي تَمَّت بها».

ووصف «المشير أحمد إسماعيل علي» تحركات المعركة فقال: «عندما انطلقت الشرارة وبدأت خطة «بدر» كما أُطلق عليها عند العسكريين؛ بدأ كل شيء يتحرك وفقًا لهذه الخطة».

أما «وزير الجيش الأمريكي»؛ فقد علَّق على هذه الحرب ونتائجها بقوله: «إنَّ عبور القوات المصرية لقناةِ السويس في مواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي لَيُعتبرُ علامةً بارزةً في الحروب الحديثة، وسوف يؤدي إلى تغيرات في الاستراتيجية الحربية، فإن حرب الشرق الأوسط قد فجرت وبددت كثيرًا من المفاهيم، فلأول مرة في التاريخ الحديث تتمكن قوةٌ عسكريةٌ كبيرة من اقتحام قناة السويس دون أنْ تفقد أية طائرة من طائراتها، وذلك في مواجهة عدو يمتلك سلاحًا جويًّا متفوقًا».

وأصدر «المعهد البريطاني لدراسات الحرب تقريرًا ذكر فيه»: «أنَّ عبور الجيش المصري لقناة السويس الذي تم في السادس من أكتوبر -أي في العاشر من رمضان- كان يصعب تحقيقه بهذا النجاح؛ حتى لو كان الأمر مجرد عملية تدريب بدون عدو مواجه.

وأضاف المعهد قائلًا: لم يكن هناك منذ عشر سنوات مَن يُصدِّق أن المصريين كانوا قادرين على ذلك، ولكنهم فعلوها، لقد دفعوا بقوات هجومهم عبْر القناة، وحققوا أعظم النتائج، لقد استيقظت روح القتال بكل تأكيد لدى المصريين».

ويقول الكاتب اليهودي «آمنون كابلويك» في كتابه «انتهاء الخرافة»: «لم يتصور أحد في إسرائيل أنَّ المصريين يمكنهم القيام بمثل هذه العملية العسكرية.

يقول: ولا يسعنا الآن سوى أن نُصاب بالذهول والوجوم؛ لأننا جميعًا وقعنا في هذا الوهم الهش الذي كان بعيدًا كل البعد عن الواقع».

فهذا ما كان بلسان أعدائنا في الجُملة، وبشهاداتهم. 

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك