تفريغ مقطع : نسف قواعد الخوارج والمعتزلة فى مسالة تكفير مرتكب الكبيرة

وأَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُم عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَن المِلَّةِ بِالكُليَّةِ كَمَا قَالَت الخَوَارِجُ، إِذْ لَوْ كَفَرَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَن المِلَّةِ؛ لَكَانَ مُرْتَدًّا يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَفْوٌ فِي القِصَاصِ، وَلَا تَجْرِي الحُدُودُ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الخَمْرِ، وَهَذَا القَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ الخَوَارِجُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الإِسْلَامِ».

لَعَلَّكَ تَذْكُرُ قَائِلَ هَذِهِ المَقَالَةِ العَظِيمَةِ: ابْنُ أَبِي العِزِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى «الطَّحَاويَّةِ»، يُلْزِمُ الخَوَارِجَ إِلْزَامًا لَا مَحِيدَ لَهُم عَنْهُ، وَلَا مَحِيصَ لَهُم عَن التَّخَلُّصِ مِمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَوْ تَأَمَّلُوا فِيهِ:

هُمْ يَقُولُونَ: مُرْتِكَبُ الكَبِيرَةِ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ!!

 

لَوْ سَرَقَ رَجُلٌ مَاذَا نَصْنَعُ بِهِ؟!!

يُقْتَلُ!!

إِذَن لَيْسَ هُنَالَكَ مَا يُقَالُ لَهُ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ عَلَى قَوْلِ الخَوَارِجِ يَكُونُ كَافِرًا مُرْتَدًّا؛ فَحُكْمُهُ القَتْلُ رِدَّةً، فَلَا تَقْطَعُ يَدُهُ!!

الزَّانِي إِذَا وَقَعَ فِي الزِّنَا وَهُوَ بِكْرٌ؛ فَإِنَّنَا لَا نَجْلِدُهُ!! وَلَا نُغَرِّبُهُ  عَامًا!! وَلَا يَشْهَدُ عَذَابَهُ طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ!! وَإِنَّمَا بِمُجَرَّدِ الوقُوعِ فِي هَذِهِ الكَبِيرَةِ يَصِيرُ مُرْتَدًّا فَيُقْتَلُ!!

وَالمُحْصَنُ لَا يُرْجَمُ!! وَإِنَّمَا يُقْتَلُ رِدَّةً!!

شَارِبُ الخَمْرِ لَا يُحَدُّ حَدَّ الشُّرْبِ!! وَإِنَّمَا يُقْتَلُ رِدَّةً!!

عُطِّلَت الحُدُودُ!! لَيْسَ هُنَالِكَ حُدُودٌ!!

فَهَذِهِ الحُدُودُ المَذْكُورَةُ فِي دِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِمَا ذُكِرَت؟!!

إِذَا كَانَ مُرْتَكِبُ الكَبِيرَةِ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلَامِ جُمْلَةً وَيَدْخُلُ فِي الكُفْرِ دُخُولًا كَامِلًا، فَيَصِيرُ كَافِرًا مُرْتَدًّا!!

حُكْمُ الكَافِرِ المُرْتَدِّ: القَتْلُ، فَالسَّارِقُ عِنْدَ الخَوَارِجِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً خَرَجَ بِهَا مِنَ الإِيمَانِ فَصَارَ كَافِرًا!! مَا حُكْمُ الكَافِرِ المُرْتَدِّ؟

القَتْلُ، يَعْنِي لَا يُقْطَعُ؟!! لَا يُقْطَعُ!! عُطِّلَ حَدُّ السَّرِقَةِ، لَيْسَ هُنَالِكَ مَا يُقَالَ لَهُ حَدُّ السَّرِقَةِ عِنْدَ الخَوَارِجِ!!

لِذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ أَبِي العِزِّ فِي هَذِهِ الوَمْضَةِ الَّتِي آتَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، وَهِيَ تَنْسِفُ مَذْهَبَ الخَوَارِجِ نَسْفًا، يَقُولُ: «أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُم عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَن المِلَّةِ بِالكُليَّةِ كَمَا قَالَت الخَوَارِجِ؛ إِذْ لَوْ كَفَرَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَن المِلَّةِ؛ لَكَانَ مُرْتَدًّا يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَفْوٌ فِي القَصَاصِ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَلَا تَجْرِي الحُدُودُ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الخَمْرِ! وَهَذَا القَوْلُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الإِسْلَامِ، وَمُتَّفِقُونَ يَعْنِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ- عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الكُفْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الخُلُودَ مَعَ الكَافِرِينَ كَمَا قَالَت المُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُم بَاطِلٌ أَيْضًا، إِذْ قَدْ جَعَلَ اللهُ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ مَعَ المُؤمِنِينَ وَمِنَ المُؤمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 178].

فَلَمْ يُخْرِج القَاتِلَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، بَلْ جَعَلَهُ أَخًا لِوَليِّ القِصَاصِ، وَالمُرَادُ أُخُوَّةُ الدِّينِ بِلَا رَيْبٍ.

هَذِهِ الجُمْلَةُ تَهْدِمُ مَذْهَبَ الوَعِيديَّةِ، تَنْسِفُهُ نَسْفًا مَذْهَبَ الخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ-.

اخْتَلَفَ أَهْلُ البِدَعِ فِي مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

*القَوْلُ الأَوَّلُ: هُوَ كَافِرٌ فِي الدُّنْيَا، مُخَلَّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ، الَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ الخَوَارِجُ.

*القَوْلُ الثَّانِي: فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ: لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ؛ هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ، الَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ هُم المُعْتَزِلَةُ.

*القَوْلُ الثَّالِثُ: مُؤمِنٌ كَامِلُ الإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ، الَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ هُم المُرْجِئَةُ.

وَهَؤلَاءِ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ.

*وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ؛ فَيَقُولُونَ: مُرْتِكَبُ الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ بِإِيمَانِهِ، فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، وَهُم لَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الإِيمَانِ المُطْلَقِ، وَلَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ مُطْلَقِ الإِيمَانِ. أَهْلُ السُّنَّةِ بِالنِّسْبَةِ لـ «لفَاسِقِ المِلِيِّ»: هُم لَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الإِيمَانِ المُطْلَقِ -وَهُوَ الإِيمَانُ الكَامِلُ-، وَلَكِنَّهُم لَا يَسْلبُونَهُ مُطْلَقَ الإِيمَانِ؛ لأَنَّهُم لَوْ سَلَبُوهُ مُطْلَقَ الإِيمَانِ لَكَفَّرُوهُ.

فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ فِي شَأْنِ «الفَاسِقِ المِلِيِّ»: مُؤمِنٌ بِإِيمَانِهِ، فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ أَيْ أَنَّهُ مُؤمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ.

الخَوَارِجُ كَفَّرُوا المُسْلِمِينَ بِلَا مُوجِبٍ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِم بِأَسْيَافِهِم، وَاسْتَحَلُّوا دِمَائَهُم وَأَمْوَالَهُم وَأَعْرَاضَهُم؛ لِوقُوعِهِم فِي هَذَا الخَلَلِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ فِي شَأْنِ الإِيمَانِ.

المُرْجِئَةُ لَا يَرَوْنَ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ مَهْمَا فَعَلَ؛ لَا يَرَوْنَهُ بِحَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ خَارِجًا مِنَ الإِيمَانِ، مَهْمَا أَتَى بِهِ مِنْ مَعْصيَةٍ.

فَهَؤلَاءِ وَهَؤلَاءِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بِيْنَ هَؤلَاءِ وَهَؤلَاءِ.

«شرح السُّنَّةِ للإمامِ المُزَنيِّ رَحِمَهُ اللهُ محاضرة: 11»


التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك